مسؤولية وصول «النصرة» وأميرها الى هذا الوضع، يتحمّلها بنحوٍ أساسي أبو مالك نفسه، والسبب هو الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه لدى تشخيصه المنهج العسكري الذي سيعتمده «حزب الله» في المعركة.
اعتنق التلي خلال وضع خطته للمعركة، افتراضيّة مسبَقة تفيد أنّ الطبيعة الجغرافية الصعبة الحاكمة للميدان، ستجعل الحزبَ يمتنع عن شنّ هجوم مباشر على مواقع «النصرة» واستحكاماتها المحميّة من عوامل طبيعة معقّدة وصعبة (التلال العالية والمغاور الخ..) وبدل ذلك سيعتمد استراتيجية استنزاف مواقع «النصرة»، والاقتراب منها على مراحل، ما يؤدّي حتماً الى إطالة زمن المعركة.
ولكنّ المفاجأة التي قصمت ظهرَ نظرية التلّي تمثّلت في أنّ الحزب لم ينتهج أسلوب الاستنزاف العسكري البطيء، بل بادر الى شنّ هجومٍ إقتحامي شامل وعلى كل المحاور وفي اتجاه كل مواقع «النصرة» دفعةً واحدة.
لقد قسّمت قيادة الحزب العسكرية، منطقة سيطرة «النصرة» الى مربّعات أو قطعات عسكرية عدة، وشنّت في وقت واحد هجوماً شاملاً عليها جميعاً، وذلك من أكثر من محور، وبطريقة كان فيها الهجوم على كل محور تتفرّع منه هجماتٌ عدة على محاور مختلفة.
من وجهة نظر عسكرية صرفة كان التلّي محقاً في قراءته التي بناها على أساس معطيات مادية تتصل بالطبيعة الجغرافية للميدان، ولكنّ خطأَه يقع في أنه لم يتحسّب لمفاجآت الحزب وبالتالي لم يضع خططاً رديفة. وعليه فإنه عندما اصطدم بفشل توقّعه مع بدء هجوم الحزب، أُصيب بنوع من «العمه الاستراتيجي» على مستوى متابعة إدارة المعركة.
وهنا قرّر الحزب الاستثمار بـ «المربحية الناتجة من انهياره» ( وهذا تعبير عسكري له سمة أخلاقية، يضعه الحزب بديلاً من مصطلح «انتهاز فرص انهيار العدوّ»)، حيث عمدت وحدات الحزب المهاجِمة الى تخطّي نطاق الأهداف المرسومة في المرحلة الأولى من الهجوم، لمصلحة إنجاز مزيدٍ منها.
والواقع أنّ الإرباك لم يصب فقط «النصرة» وأميرَها التلّي، بل أصاب أيضاً «سرايا أهل الشام». وإرباك الأخيرة تسبّب بمفاجأة غير سارّة للحزب.. وبحسب المعلومات فإنّ «أهل الشام « كانت وافقت على تحييد نفسها في المعركة قبل بدئها وذلك عبر اتفاق أبرمته مع الجيش اللبناني، وكان يوجد لـ«حزب الله» في هذا الاتفاق جزءٌ يخصّه وينظّم عدم
الصدام بينه وبين «أهل الشام». ولكنّ اندفاعة قوات الحزب وفق نظرية الإفادة من «المربحيّة» المتوافرة، أربكت عناصر «أهل الشام». ووسط شيوع جوٍّ من الخوف في صفوفهم، تقهقروا الى الخلف بدل البقاء في مواقعهم أو النزول بأعلام بيضاء الى منطقة الجيش اللبناني، وظنّت إحدى مجموعات «سرايا أهل الشام»، أنّ اتفاقها مع الجيش اللبناني لم يتم احترامُه، فنصبت مكمناً لمجموعة من الحزب أودى بحياة عدد من عناصره (يُقال من 6 الى 7 عناصر)، وكانت هذه أولى أكبر خسائرة في المعركة.
حتى اللحظة لا يزال الحزب يرفض إعتبار ما حصل بأنه «خيانة» من «أهل الشام» للاتفاق، بل يعتبره ناتجاً عن إرباك عارم واجهه هؤلاء نتيجة زخم اندفاعة هجوم «الحزب» غير المتوقّع.
وخلال انخراط «أهل الشام» في التفاوض قبل بدء المعركة ووجِهوا باستهزاء التلّي بموقفهم، واتهامهم بالجبن، ولكنهم تجاوزوا تهويل التلّي المعنوي عليهم، وكانت الخطة أنه مع بدء هجوم الحزب ينسحبون في اتجاه مواقع الجيش اللبناني.
لكن بعد مكمن إحدى مجموعاتهم لعناصر الحزب، أبلغهم الأخير بأنه لم يعد مسموحاً لهم الالتجاء الى منطقة الجيش، بل عليهم العودة الى مخيمات النازحين قرب عرسال ليكونوا مع عائلاتهم الذين يقيمون فيها.
ظل هناك شيءٌ من عدم الوضوح في شأن هذا المطلب الجديد، حيث لم يتّضح فيما لو كان المطلوب منهم الالتحاق بالمخيمات مع أسلحتهم الخفيفة، ليكونوا بمثابة شرطة موقتة حتى إنتاج تسوية ترحيلهم، تحمي المخيم من إمكانية تسلّل «النصرة» اليها؟ أم أنّ المقصود عودتهم كنازحين؟
وبالعودة الى المسؤولية التي يتحمّلها التلّي في الهزيمة التي لحقت بجماعته في جرود عرسال، يجدر هنا تسجيل الملاحظات الآتية:
أولاً، هناك جوّ داخل الحزب يعتبر أنّ التلّي بنى نظريّته عن أنه سيتعرّض لحرب استنزاف بطيئة وليس لضربة هجومية سريعة، بناءً على اعتبارات أخرى غير المستندة الى طبيعة الأرض الصعبة التي يسيطر عليها، أبرزها أنّ طريقة «حزب الله» في التفاوض معه لخروجه من المنطقة، اتّسمت بالصبر على تسويفه ومماطلته في الرد على الأجوبة وتغييرها مرة بعد مرة.
اعتبر «التلّي» (أو دفع نفسياً لكي يعتبر ذلك) أنّ صبر الحزب يؤكد صحّة نظريّته عن أنّ قيادته العسكرية تتهيّب صعوبة حسم المعركة ضده بسرعة، وعليه ستتجنّب تنفيذ هجوم مباشر عليه، لمصلحة اعتمادها حرب استنزاف يطول وقتها، ولذلك وجد التلّي أنّ من مصلحته التفاوض الجدي بعد بدء الحرب وليس قبل نشوبها وفي ظلّ أجواء الضغط عليه بالتهويل ببدئها.
ثانياً، هناك سببٌ آخر دفع التلّي الى رفض التسوية، وهو شعوره أنّ «النصرة» في المجمل دخلت معادلة «العراء الاستراتيجي»، وذلك بعد دخول قطر في مرحلة أزمة الضغوط الخانقة عليها تحت تبرير أنها تدعم الإرهاب، وأيضاً بعد توقيع الدوحة اتفاق مكافحة الإرهاب مع واشنطن التي تعتبر «النصرة» جزءاً من الإرهاب في المنطقة.
أضف الى ذلك طرح التلّي سؤالاً على نفسه وهو الى أيّ إدلب سيذهب وذلك في وقتٍ تعيش هذه المنطقة حربَ وجود بين «النصرة» و»أحرار الشام». وكل هذه الاعتبارات جعلت التلّي يشعر بأنّ أيّ تسوية لخروجه في هذه اللحظة لن تتوافر فيها الضماناتُ الكاملة للحفاظ على حياته.
وفي هذا السياق هناك مَن يعتقد أنّ التلّي لا يريد فقط ضمانات من مُرحِليه اللبنانيين، بل أيضاً من قيادته في إدلب التي غيّرت تطوّرات أزمتها مع «أحرار الشام» من أولوياتها، وأيضاً من داعميه الإقليميين الذين ما عاد يعرف طبيعة موقفهم منه.