منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو يصارع من أجل حياة آمنة ورغيدة ملؤها السعادة . إلا ان كل محاولاته لا تزال تبوء بالفشل بسبب سوء تقديره لما فيه مصلحته . فترى كل أمة تبني مدة من الدهر حياتها التي ترى فيها راحتها، ولكنها سرعان ما يجرفها طمعها لنيل المزيد من الخيرات إلى البغي على غيرها من الأمم، فتقع الحروب التي تُدَمِّر كل شيء حتى من قام بها طمعاً .
تجارب متكررة تقوم بها الأمم والمجتمعات البشرية وتنتهي كلها إلى نفس النتيجة السلبية المدمرة التي كان يراد منها أن تكون سبباً لجلب المزيد من الخيرات لمن قام بها, فإذا بها سبب لخسران ما تم اكتسابه لمدة طويلة من الجهود المضنية .
لكن هذا التراكم في التجارب السلبية المدمرة سيكون هو نفسه السبب في إعلان المجتمعات والأمم البشرية المتصارعة منذ أن وُجِدت -وبكل فئاتهم ومعتقداتهم وأعراقهم- إستسلامهم لنظام عيش واحد لا يمكن لأي فرد بشري أن يعيش سعيداً بدونه .
فبمجرد أن نلتفت إلى أننا نحن البشر مخلوقٌ واحدٌ وأن ما يضر واحدنا يضرنا الكل وما ينفع واحدنا ينفع الكل وأن الشعور بالأنانية ونزعة حب الإستحواذ على كل شيء -المزروعة في الإنسان عند خلقه كمحفز له على نيل السعادة المطلقة في الآخرة- ليس مورد تطبيقها في عالم الدنيا المحدوم . فإن الأرض التي هي موطننا في عالم الدنيا هي كوكب صغير ذي خيرات محدودة ولا تكفي خيراته هذه لتروي ظمأ رغبات وطموحات واحد من بني البشر، فكيف السبيل إلى أن نعيش جميعاً مشاعرنا الآمنة والمطمئنة بحدودها الممكنة من دون أن تكون نفس هذه الرغبات سبباً لنزاعات تُشقينا أفراداً وجماعات ؟
إقرأ أيضا : ليلة إصلاح أمر المهدي (ع)
الجواب على هذا السؤال هو الأمر الذي بات يحير عقول ذوي الألباب بعدما بدأ الجميع يلمس عجزه عن الوصول إلى كل غاياته في هذه الدنيا ولو على حساب غيره من إخوته الآدميين، فإن الجميع أدرك -بعد تجارب كثيرة جداً ومدمرة ولآلاف السنين- أننا كلنا نركب في سفينة واحدة إسمها الأرض وهي تسبح في هذا الفضاء العظيم، وأن طمع أي مجتمع أو أمة بخيرات أي مجتمعات أو أمم أخرى سوف ترتد مآسيه على الجميع ومنهم الطامع نفسه ولو بعد حين . وقد بدأ الجميع يلمس أن الطمع الذي يعتري الكل بالسيطرة على حقوق باقي الأمم والمجتمعات البشرية هو عبارة عن ثقب في هذه السفينة التي نركبها جميعاً، وأن هذا الثقب سيؤدي إلى الإستمرار في غرق سفينة حياتنا كلنا في بحار الظلمات والدماء, كما دلت على ذلك كل التجارب البشرية السابقة والحالية .
وانطلاقا من كل هذا، فإن البشرية وبسبب امتلاك أفرادها لقدرة التفكير والتخطيط لتغيير الأحوال السيئة إلى حسنة عند إعمال العقل، وبسبب شعور الجميع بحالة اليأس المزروعة -رحمة- في الإنسان, والتي تَتفَّعل وتتجلى عندما يدرك الفرد أو الجماعة أن تجربة ما لم يؤدي تكرارها إلا إلى الألم والمعاناة الشاملين اللتين تبغضهما النفس البشرية بالتكوين، فإن جميع الأمم باتت قريبة من إعلان يأسها من أي فائدة ترتجى من الإستمرار في محاولات سيطرة الشعوب والأمم على بعضها البعض عنوة وغصباً, مهما كان المسمى والعنوان الذي تزيِّنه كل جماعة أو أمة لنفسها وتجعله مبرراً لها في بغيها على غيرها من إخوتها الآدميين .
ومن هنا قيل : إشتدي أزمة تنفرجي . والأزمة باتت على مستوى البشرية، وخصوصاً بعدما تمكن الكل من معرفة نتائج تجارب الكل في هذا المضمار .
النادم الوحيد بعد وصول البشرية إلى تلك القناعة المُوصِلة إلى السلام -الذي لا بد وأننا سنصل إليه جميعنا- هو من كان قادراً على أن ينجو بنفسه من هذه الفتن المستمرة بين بني آدم منذ أن وجد أبونا آدم على هذه الأرض, وخصوصاً من وصلتهم حجج المرسلين والحكماء والصالحين ولكن طغيانهم الناتج عن جهلهم لم يسمح لهم بالإستماع إلى صوت الحكمة . فالطغيان تحت أي عنوان سوف لن يخرجه عن كونه شأناً مرحلياً ستمر عليه سنن الحياة وتهلكه وترسلته إلى قبر بعده محكمة لا يُظلم عند قاضيها أحد .