المسيح كان كريمًا، سخيًّا، جوّادًا، وهّابًا، مبدّدًا... تلاميذه كانوا بخلاء، ممسكين عن العطاء، منقبضي اليد عن الإنفاق، عاشقين للمال... بعضهم من القدّيسين والأبرار أضحوا كسيّدهم مقتدين به في كلّ شيء. ومعظمهم، حتّى ممّن تبوّأوا المناصب الأولى في الكنيسة، ما زالوا على تقتيرهم وشحّهم وعدم إحساسهم بالفقراء.
هذا ما دعا القدّيس كيرلّس الإسكندريّ (+444)، في تعليقه على حادثة تكثير الخبز والسمك وإطعام نحو خمسة آلاف رجل مع عائلاتهم (يوحنّا 6، 1 - 15)، إلى القول: "نجد في البدء أنّ التلاميذ كانوا بطبعهم يتوانون عن إطعام الجياع، لكنّ المخلّص أعطاهم وفرة ممّا فضل من فتات. هذا يعلّمنا أيضًا أنّنا، إذا أنفقنا مالاً قليلاً من أجل مجد الله، سننال نعمةً أغنى... لذلك ينبغي ألاّ نكون متوانين في ما يختّص يشركة المحبّة تجاه الإخوة، بل علينا أن نخلع عنّا التواني والخوف اللذين يقودان إلى عدم إكرام الضيف، ونلبس الشجاعة الصالحة. هكذا نثبت في الرجاء بإيمان ثابت في قدرة الله لتتكاثر أصغر أعمالنا الصالحة".
ثمّة ثلاثة أركان في المسيحيّة: الإيمان والرجاء والمحبّة. أمّا التجربة المهلكة التي قد تزعزع أحد هذه الأركان أو ثلاثتها معًا، وتزعزع الإيمان كلّه، إنّما هي تجربة المال. فالبخيل، إذا آثر البخل على محبّة الفقير لا يمكنه أن يركن إلى المحبّة، والغنيّ المكتفي بنفسه يفتقر إلى الرجاء، والبخيل والغنيّ معًا إيمانهما بما يملكانه أقوى من إيمانهما بالله: "لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين، لأنّه إمّا أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (متّى 6، 24). إمّا الإيمان بالله، وإمّا الإيمان بهذه الدنيا الفانية.
ما لم يصنعه تلاميذ يسوع صنعته أرملة فقيرة امتدحها يسوع بهذه الكلمات: "بحقّ أقول لكم إنّ هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من المتبرّعين الأغنياء (في صندوق الهيكل)، لأنّ هؤلاء كلّهم ألقوا في الهبات من الفائض عن حاجاتهم، وأمّا هي فإنّها من حاجتها ألقت كلّ ما تملك لمعيشتها" (لوقا 21، 4). هذا الصندوق كان مخصّصًا لإعانة الفقراء والمساكين والمعوزين، وهل ثمّة من هو أكثر فقرًا من أرملة لا معين لها ولا معيل؟ مع ذلك أرملة مسكينة وهبت كلّ ما تملك لمعيشتها للفقراء. هذه هي المسيحيّة يا سادة !
يرى القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397) أنّ الأرملة ترمز إلى الكنيسة، هي رمز الكنيسة كلّها. ليست الكنيسة كنيسة إنْ لم تكن كالأرملة تهب كلّ ما تملك للفقراء. يقول أمبروسيوس: "الأرملة ترمز إلى الكنيسة، إذ ألقت في الخزانة المقدّسة هديّةً بها تشفى جراح الفقراء، ويُسدّ رمق كلّ عابر سبيل". ونضيف على كلام أمبروسيوس المضطَهدين، والمطرودين من ديارهم، وضحايا الحروب، والنازحين...
يعتبر المغبوط أوغسطينُس أسقف عنّابة (+430) أنّ الصلاة لها جناحان من دون أحدهما لا نستطيع الوصول إلى الله. ففي شرحه لقول الربّ: "أغفروا يُغفر لكم. أعطوا تُعطَوا" (لوقا 6، 37 - 38)، يستنتج أوغسطينس: "هذا هما جناحان للصلاة تطيرون بهما إلى الله. سامحوا المعتدين على ما اقترفوه، وأعطوا المحتاجين... ماذا تريد من الرب؟ رحمةً. أعطوا تُعطَوا. ماذا تريد من الرب؟ عفوًا. أعفوا يُعفَ عنكم".
ليس في الكتاب المقدّس من الدفّة إلى الدفّة كلمة واحدة تبرّر عدم العطاء. كلّ كلام يدعو إلى عدم العطاء ويبرّر للمتقاعسين توانيهم في الرحمة والمحبّة هو كلام مسيحيّ، وإن قيل من أسمى منابر التعليم في الكنيسة. "إنّ المعطي المسرور يحبّه الله" (كورنثوس الثانية 9، 7). هذه هي المسيحيّة يا سادة !