ما سوّقت له هذه الدول هو أن يحسم الجيش اللبناني وحده هذه المعركة، مستفيداً من الغطاء الدولي المعطى لها. وحتى ما قبل أيام قليلة من بدء معركة عرسال، كان اصحاب هذا السيناريو ينتظرون ما ستسفر عنه اتصالاتهم الدولية لاعتماد سيناريو ينفّذ بموجبه الجيش، منفرداً، هجوماً برّياً لاستئصال «داعش» و«النصرة» من الجرود اللبنانية وذلك بدعم جوي كامل وكثيف تؤمّنه الطائرات الحربية الاميركية والبريطانية.
وهناك رأي يقول إنّ خروج نصرالله الى العملية وضع الجميع امام الامر الواقع وأفقد القائلين بسيناريو عملية للجيش بمفرده بتغطية جوية اميركية - بريطانية، مساحة الوقت المطلوبة دولياً لإنضاج هذا السيناريو، فيما يؤكد رأي آخر أنّ الحماسة لهذا السيناريو لدى واشنطن ولندن كانت فاترة.
لقد مرّ النقاش الداخلي والاقليمي حول تنفيذ معركة عرسال في مراحل عدة تخلّلها وضع سيناريوهات مختلفة لطريقة تنفيذها ونوعية القوى العسكرية التي ستشارك فيها وضمن أيّ معايير.
أحد السيناريوهات المبكرة تحدّث عن تنفيذ «حزب الله» عملية برية من الاتجاه السوري نحو مناطق وجود «النصرة» و«داعش» في جرود عرسال، فيما يعمل الجيش اللبناني على تأمين الإسناد المدفعي والاستعلام الجوي الميداني وحراسة خطوط الدفاع عن مخيمات النازحين وبلدة عرسال في وجه امكانية تسلّل الارهابيين اليهما.
لكنّ مواكبة التفاعلات السياسية اللاحقة لهذا الموضوع، وجّهت النقاش في اتجاه البحث عن صيغة أُخرى تعير وزناً للتعقيدات التي قد تنتج عن مشاركة الجيش اللبناني في تنسيق واضح مع «حزب الله» والجيش السوري في هذه المعركة التي تتم في ميدان سوري ـ لبناني مشترك (الجرود اللبنانية والقلمون السوري).
وقادت هذه التعقيدات الى رسم خريطة توزيعة جهد عسكري للمعركة تطبّق معايير تراعي الثوابت السياسية لجميع الاطراف المعنية بها داخلياً وخارجياً، وعسكرياً وسياسياً؛ وهي الآتية:
ـ أولاً، حصر مهمة الجيش اللبناني بالدفاع عن حدود عرسال ومخيمات النازحين ومنع مسلحي «النصرة» من التسلّل اليها. وتجدر الاشارة الى انه ضمن احتساب المخاطر الكبرى المتوقعة لمعركة جرود عرسال، إعتُبِر منذ البداية أنّ اخطر مفاجأة قد ينفّذها الارهابيون هي نجاحهم بنقلها الى داخل عرسال ومخيمات النازحين، ما يأخذ مجمل معركة جرود عرسال الى وقائع التعقيدات الداخلية اللبنانية، وتتحوّل من حرب جرود ضد «النصرة» و«داعش» الى معركة يتداخل فيها شعار القضاء على الإرهاب مع وقائع حالات الاحتقان المذهبية اللبنانية الداخلية، ما قد يؤدّي الى تبكير انفجار لغم ديموغرافيا النزوح السوري في لبنان الذي هناك حالياً قلقٌ دوليّ وإقليميّ في شأنه وحرصٌ على إنتاج «معالجة سريعة ما» له تؤدّي الى تفكيك مخاطره.
ـ ثانياً، حصر مهمة «حزب الله» في معركة عرسال بإنجاز طرد «النصرة» و«داعش» من الجرود، من دون اقترابه من بلدة عرسال ومخيمات النازحين حولها. وهو امر يحاذر الحزب منه بالاساس، لأنه يدرك أنّ هدفه جرّ المعركة ضد الارهاب الى افتعال فتنة سنّية ـ شيعيّة وتسميم العلاقة اللبنانية اكثر مع ديموغرافيا النزوح السوري.
ويُستفاد من هذه الوقائع أنّ الحزب لا يرغب حرق أصابعه بنار فتنة تنطلق من بلدة عرسال ومخيماتها، في حال اضطر للدخول اليها عسكرياً، كما أنّ جهات عربية ودولية تظل معنيّة بإبقاء ورقة النازحين خارج سيطرة الحزب، نظراً لأنّ هؤلاء النازحين يمكن أن يشكّلوا ناخباً كبيراً لإبعاد الرئيس بشار الأسد عن رئاسة سوريا، وذلك عندما يصل مسار حلّ الازمة السورية الى مرحلة اجراء انتخابات رئاسية حرة، وفق نظرية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي بدأ نظيره الاميركي دونالد ترامب يسايرها ومفادها «أنّ الشعب السوري وحده يقرّر مَن هو رئيسه المقبل، سواءٌ كان الاسد او غيره».
ـ ثالثاً، واقعياً تم الاعتراف ضمناً بأنّ المعركة في عرسال ضد الارهاب، لا يمكن أن تجرى إلّا وفق مراعاة بيئة ميدانها الموضوعي المتّسم بأنه «ميدان سوري ـ لبناني مشترك» يتداخل عسكرياً وجغرافياً، ويتشكل من «جرود عرسال والقلمون السوري»، وبالتالي لا يمكن التعامل عسكرياً مع الرقعة اللبنانية من هذا الميدان من دون التنسيق مع الجزء الثاني السوري منه.. ولكنّ الاعتراف بهذا التداخل الميداني للمعركتين السورية واللبنانية، لم يُلغِ التطلّع الدولي والاقليمي الى وضع ضوابط وحدود سياسية للعملية العسكرية، حيث يقتصر الغطاء الجوي الحربي السوري على المنطقة السورية من ميدان المعركة الواحدة، ويقتصر دور الجيش اللنباني على حماية خطوط الدفاع عن بلدة عرسال ومخيمات النازحين، فيما «حزب الله» يخوض معركة الجرود اللبنانية منفرداً ويقتصر تنسيقه فيها مع الجانب السوري فوق رقعة تتمّتها في القملون السورية.
وبهذا المعنى رسمت وقائع معركة ضرب «النصرة» في القلمون الغربي السوري وجرود عرسال اللبنانية، الحدود السياسية لنتائجها، وهي إبقاء ورقة مستقبل النازحين في يد الدولة اللبنانية التي لم تحسم بعد موقفها السياسي من طريقة إعادتهم الى بلدهم، وإبقاء تنسيق «حزب الله» مع الجيش السوري مسألة لها ترجمتها العسكرية داخل سوريا وليس داخل لبنان، وايضاً إبقاء الجيش اللبناني خارج التنسيق العسكري المعلن مع الحزب والجيش السوري، مع انفتاحه على التنسيق غير المباشر الذي يفرضه الميدان العسكري ضمن مهمته لحماية أمن لبنان من انتقال الارهاب الى داخل بلدات لبنانية، وأيضاً الى داخل بيئات النازحين السوريين.
وفيما الرهان على بقاء خريطة توزيعة الجهد العسكري في معركة إخراج «داعش» و«النصرة» من معقلهما الحدودي اللبناني ـ السوري المشترك، صامدة تحت سقف احترام جميع اطرافها الخطوط الحمر السياسية في ميدانها، وذلك حتى إنجاز المعركة المغطاة دولياً، فإنه تظلّ هناك في نظر مستوياتٍ سياسية وأمنية مخاطر عدة تحتاج الى الاحتساب منها لأنها في حال وقوعها، قد تؤدي الى إفساد دقة الحسابات التي تشكل ضمانات سياسية ولو غير معلنة للمعركة.
وابرز هذه المخاطر يتمثل في أن تنجح «النصرة» أو «داعش» بنقل المعركة الى مخميات النازحين وحتى الى داخل عرسال، وهو أمر يظلّ متوقَعاً حتى اللحظة الأخيرة في هذه المعركة، خصوصاً مع وجود معلومتين متداولتين داخل البيئات الأمنية، الأولى تحذّر من أنّ خطة «النصرة» تتضمّن مع الوصول الى لحظة اليأس، توجيه هجمة انتحارية لاختراق خط دفاع الجيش عن مخميات النازحين، وذلك بواسطة سيارات مفخخة عدة دفعة واحدة ( 6 سيارات).. والثانية وجود اعترافات لموقوفين من «النصرة» عن وجود خلايا نائمة داخل المخيمات وبلدة عرسال (تتكوّن من 130عنصراً)، ستتحرّك في اللحظة التي يقرّرها «أبو مالك» التلي.