حافظت معركة تحرير الجرود المحتلة على زخمها وديناميتها، في اليوم الثالث لانطلاقها، الامر الذي سمح للمقاومة بتطهير ثلثي مساحة جرود عرسال من ارهابيي «النصرة»، والسيطرة على كامل جرد الفليطة في القلمون الغربي بالتعاون مع الجيش السوري.
وقياسا الى ايقاع المواجهة وحصيلتها في الايام الماضية، يمكن الاستنتاج ان الوقت لن يطول قبل ان تستكمل المقاومة الاطباق التام على آخر المواقع التي لا تزال «فالتة»، ضمن حيز جغرافي لا يتجاوز الـ 30 بالمئة تقريبا من النسبة الاجمالية لمساحة جرود عرسال التي كانت تحتلها «النصرة».
ومع انتهاء اليوم الثالث من المعركة، يمكن تظهير الصورة الآتية:
-قيادة حزب الله مرتاحة جدا حتى الآن الى نتائج الهجوم المطابقة للتوقعات، إن لم تكن أفضل، وهي تعتبر ان المعركة تدور وفق ما هو مرسوم ومخطط لها أصلا، ولا توجد اخطاء معينة او مكامن خلل في مسارها.
-القيادة السياسية للحزب فوضت المستوى العسكري فعل كل ما يلزم لتنفيذ القرار المتخذ بتحرير الجرود، وفق ما هو مناسب وضروري، على قاعدة تحقيق «افضل الانجازات باقل الاكلاف».
-المقاومة تخوض المعركة «على ساعتها»، حيث انها هي التي تتحكم بالوقت وليس هو الذي يتحكم بها، وبالتالي فقد تُرك لمجموعاتها ان تتصرف وتدير المواجهة وفقا لما تفرضه الظروف الميدانية، من دون ان تتأثر باي ضغط سواء كان زمنيا او سياسيا.
-الخسائر في صفوف المقاومة هي معقولة جدا، بل تكاد تكون اقل مما كان منتظرا، وفق اوساط حزب الله، وذلك قياسا الى تركيبة العدو الشرس والمتحصن، والى التضاريس الجردية الصعبة والقاسية لدرجة انه نُقل عن أحد قياديي المقاومة قوله: نحن نقاتل الجغرافيا أكثر مما نقاتل «النصرة». 
-التكامل بين دوري المقاومة والجيش اللبناني كبير ومنتج، ولو انه مزود بـ «كاتم للصوت»، ومن دون وجود غرفة عمليات مشتركة بالضرورة.
-التنسيق العملاني بين المقاومة والجيش السوري عالي المستوى، وهو تُرجم ببسط السيطرة على كامل جرود الفليطة في القلمون الغربي.


 انه «لبنان».. 


ومع ذلك، فان هذه الصورة المعبرة والبليغة لم تكن كافية لاقناع أصحاب نظرية «عنزة ولو طارت»، بالتخلي عن العنزة، واستبدالها بالعزة!
ولكن.. هل يكفي ان نقول انه «لبنان» حتى يصبح كل أمر نافر وعبثي مألوفا ومعتادا؟
هل يكفي ان نقول انه «لبنان» حتى يصبح من يحارب الارهاب ويتصدى له متهما في ولائه الوطني ومطالبا بتبرير تضحياته؟
هل يكفي ان نقول انه لبنان حتى تصبح «جبهة النصرة» مجرد فصيل معارض يحظى بتعاطف البعض، إما نتيجة تشويش في البصيرة وإما نكاية بالخصم السياسي؟
هل يكفي ان نقول انه «لبنان» حتى يصبح «الشهيد» قتيلا والارهابي ثائرا، وفق تصنيف بعض القواميس، فتختلط المفاهيم والتعريفات من دون ترسيم للحدود بينها؟ 
هل يكفي ان نقول انه «لبنان» حتى يصبح مقبولا ان يقف البعض على الحياد في معركة مصيرية ضد التكفيريين لا تحتمل التأويل، بل لعل هناك من وصل به «الكيد السياسي» الى حد ان ينحاز ضمنا او علنا الى جانب هؤلاء برغم معرفته انه سيكون اول ضحاياهم إذا انتصر منطقهم وتمددت منطقتهم؟
هل يكفي ان نقول انه «لبنان»، حتى يصبح طبيعيا ان تجول «أحصنة طروادة» في الداخل، بينما يخوض المقاومون أشرس مواجهة في أعالي الجرود؟
هل يكفي ان نقول انه «لبنان» حتى يستسهل العبثيون الإساءة الى جهد المقاومة وتضحياتها في مواجهة مجموعات مسلحة، لا نقاش حول ظلاميتها، وجرى تصنيفها بانها ارهابية من قبل الامم المتحدة وعواصم المجتمع الدولي، وحتى من قبل جهات اقليمية تعادي حزب الله؟
ان المعركة التي تخوضها المقاومة حاليا ضد الارهاب التكفيري الذي يحتل الجرود هي مطابقة في مواصفاتها ومعانيها لتلك التي سبق ان خاضتها ضد العدو الاسرائيلي عندما كان يحتل الجنوب. وبهذا المعنى، فان شرعية السلاح والمهمة لا يمكن ان تتجزأ، وانما تمتد مظلتها من الحدود الجنوبية الى الحدود الشرقية، في مواجهة اي احتلال وعدو. 
وإذا كان الانقسام الداخلي حول المشاركة العسكرية لحزب الله في حرب سوريا يمكن تفهمه ربطا بتضارب الانتماءات والمقاربات والحسابات والتحالفات، فان ما يستحيل تقبله هو حصول فرز بين «مع» و«ضد»، في شأن معركة «نظيفة» و«نقية» على المستويين الوطني والانساني، ولا لبس فيها بتاتا، للاعتبارات الآتية:
-ان الارض المحتلة التي يجري تحريرها في جرود عرسال هي ارض لبنانية، تندرج ضمن مساحة الـ 10452كلم2، ما يعني ان استعادتها حق وواجب، وفقا لكل الشرائع.
- ان العدو المستهدف هو مزيج تكفيري- ارهابي من «النصرة» و«داعش»، وبالتالي لا مجال للحيرة او التردد في حسم الخيار.
- ان المواجهة اندلعت بعدما اضاع المسلحون فرصا عدة منحها لهم حزب الله من أجل الانسحاب.
- ان مردود الانتصار سيعود على جميع اللبنانيين بالتأكيد، خصوصا لجهة تحصين الامن والاستقرار، وفي طليعة «الرابحين» أهالي عرسال الذين سيستعيدون ارضهم المسلوبة وحرية حركتهم.
 ولعل أبلغ تعبير عن هوية المواجهة ومضمونها هو رفع العلم اللبناني الى جانب علم حزب الله، فوق احد المواقع الاستراتيجية التي اقتحمتها المقاومة في الجرود. ان هذه الاشارة تحمل من الرمزية والدلالة ما يكفي لوضع مسار المعركة في نصابها الصحيح وتأكيد ابعادها الوطنية الشاملة، العابرة للطوائف والمذاهب.
وعليه، فان كل منزل في لبنان معني مباشرة بما يدور في اقاصي الجرود، لان الخطر النابع من كهوف الارهابيين ومغاورهم لم يكن يميز بين منطقة واخرى، وطائفة وأخرى، كما يتبين من الاعتداءات السابقة على الاهداف المدنية ومن اعترافات اعضاء الشبكات التخريبية التي سبق ان أوقفتها القوى الامنية ومخابرات الجيش.
انها لحظة الترفع عن الصغائر الهزيلة والمماحكات التقليدية، وقد كان أجدر بخصوم حزب الله، ان يتجاوزوا حساسياتهم امام هذه المحطة المفصلية، وان يعلقوا ولو لبضع ايام مفاعيل هذه الخصومة وأدبياتها، ليس فقط انسجاما مع الضرورات الوطنية والامن القومي، وانما كذلك احتراما لدماء الشهداء والجرحى ولمشاعر ذويهم ومحبيهم.
الامور لا تقاس ولا تحسب دائما بناء على تكتيكات السياسة ونكاياتها، بل ان الجانب الاخلاقي يفرض احيانا اتخاذ مواقف استثنائية، أسمى من الزواريب والحرتقات. 
وانطلاقا من هذا الاعتبار الاخلاقي، يُفترض بالجميع من دون استثناء ان يتواضعوا امام مقاومين، في مقتبل العمر، يضجون بنبض الحياة وثقافتها وحيويتها ونجاحاتها وطموحاتها، لكنهم أدركوا ان الوجه الآخر لها لا يكتمل من دون كرامة وسيادة وحرية واستقلال، فتطوعوا لتسلق مرتفعات هذه القيم واستعادتها، نيابة عن جميع اللبنانيين، ومن أجلهم.
اما المعترضون، فلا بأس في وضع عدد من الاسئلة بتصرفهم:
الا تشعرون بوخز الضمير حين تتأملون في وجوه الشهداء السمحة والمبتسمة؟
الا تشعرون بالحرج حين تدققون في سيرهم الذاتية؟
الا تشعرون بالندم حين تعرفون بطولاتهم وانجازاتهم؟
ألا تشعرون بالخجل حين تكتشفون نقاء آبائهم وأمهاتهم؟
الا تشعرون بالارتباك حين تباغتكم دموع أبنائهم ومحبيهم؟ 
ان حزب الله، وبمعزل عن نسبة الاتفاق او الاختلاف معه، هو شريك دائم وثابت للآخرين في الوطن والدولة، وهذه حقيقة تكويني ة- كيانية راسخة ومستمرة، بعد جرود عرسال وقبلها، وبعد الحرب السورية وقبلها، في حين ان «النصرة» و«داعش» هما جسمان غريبان وطارئان، مصيرهما الزوال عاجلا ام آجلا، وبالتالي فان الحكمة والمصلحة على حد سواء تقتضيان الاقرار بهذه الحقيقة، والعمل بمقتضاها من دون مكابرة او عناد.
ان الدول الطبيعية والسليمة ترتقي في مثل هذه الظروف الى مستوى التحدي الوجودي الذي تواجهه، فتتجاوز الخلافات الداخلية والصراعات الجانبية، اقله مرحليا، حتى تكون على قدر المسؤولية إزاء التهديد المحدق، ثم تعود بعدما تنتصر على عدوها الى ترف لعبتها الداخلية ومجرياتها..
اما الذين يعتبرون ان تحرير الجرود يجب ان يكون من شأن الجيش اللبناني حصرا، فان مشكلتهم الحقيقية ليست مع حزب الله وانما مع السلطة التي امتنعت عن منح الجيش القرار السياسي لتنظيف تلك الجرود واستعادتها الى حضن الوطن، برغم مضي سنوات طويلة على احتلالها، وبرغم ان المؤسسة العسكرية ذاتها دفعت ثمنا باهظا لانتشار المجموعات الارهابية فيها. 
ثم يحدثونك بعد ذلك عن مصادرة قوى «الامر الواقع» لقرار الحرب والسلم، وتفردها به..
ان الحريصين على إبقاء هذا القرار بحوزة الدولة، كانوا امام فرصة ثمينة لاثبات القدرة والشجاعة على تحمل تلك المسؤولية في الوقت المناسب، لو تم تكليف الجيش بتحرير الجرود اللبنانية المحتلة واجتثات الجماعات الارهابية منها. 
لكن، ولما كانت التوازنات والتعقيدات والنيات والارتباطات قد حالت دون ذلك، فلا ينبغي ان يلومن أحد المقاومة لانها بادرت الى سد الفراغ، بل اضعف الايمان شكرها او اقله الامتناع عن التشويش عليها والاساءة اليها، إذا كان متعذرا بالنسبة الى البعض الانخراط في القتال الى جانبها.
ان الصورة التي تليق بلبنان وأهله، في هذه اللحظة، هي صورة مواطنين من ابناء بلدة القاع المسيحية، بادروا الى التبرع بالدم لمساعدة المقاومة والجيش والتضامن معهما، من دون التوقف عند اي اعتبار مناطقي او طائفي. هذه العاطفة «السائلة» تعكس حقيقة نبض الشارع الذي يبدو اكثر وعيا وعمقا من بعض قيادييه، وهذا النوع من السلوك هو البديل عن الانزلاق الى «قاع» المواقف.
مهما يكن من أمر، يبقى ان «المشاغبين» على معركة التحرير هم قلة، فيما بدا واضحا ان مشروعية المواجهة التي تخوضها المقاومة تركت تاثيرها الكبير والايجابي على المزاج الاجمالي حيالها، وهو الامر الذي انعكس نضارة متجددة في اشكال للتضامن مع المقاومة، ضمن اوساط كانت قد «فترت» همتها او عواطفها نسبيا خلال السنوات الماضية. 


 الوقائع الميدانية 


على الصعيد الميداني، واصل عناصر المقاومة تقدمهم على الارض، وشد الخناق على مسلحي «النصرة»، حيث باتت أكثر من 70 بالمئة من جرود عرسال محررة، الى جانب سيطرة المقاومة والجيش السوري على مجمل جرود فليطة في القلمون الغربي، ما يُضيّق الخيارات امام الارهابيين الذين باتوا محاصرين في رقعة ضيقة. 
وقد تمكنت المقاومة امس من الاطباق على وادي العويني المصنف من اهم معاقل «النصرة»، كما دخلت الى مقر عمليات الجبهة الارهابية في حقاب الخيل، اضافة الى الإمساك بمرتفع شعبة القلعة وشعبة نحلة التي تشرف على وادي المعيصرة. 
وبات وادي الخيل في جرود عرسال، بحكم الساقط عسكريا بعد استكمال السيطرة على المساحات الجردية والتلال المرتفعة المحيطة به، علما ان هذا الوادي يشكل عمقا حيويا لـ «النصرة». 
وافاد «الاعلام الحربي» عن انسحاب احد مسؤولي «النصرة» المدعو ابو طلحة الانصاري مع حوالى 30 من مسلحيه في اتجاه قلعة الحصن، شرق جرد عرسال بعد التقدم الكبير للمقاومة.
وقد ترافقت العمليات العسكرية المتواصلة والانجازات العسكرية، مع توقيف مخابرات الجيش للمدعو خضر الفليطي في عرسال، لتعاونه الامني مع «داعش».