لم يشكّل انطلاق عملية تحرير جرود عرسال مفاجأة لأحد. فالعملية معلن عنها، ولم تكن «تُطبخ سراّ». لكن مفاجأة المسلحين كانت في المكان الذي انطلقت منه.

لم تبدأ المقاومة هجومها من المناطق التي يحتلها مسلحو «داعش»، بل اختارت مناطق انتشار جبهة النصرة، وتحديداً، المواقع الأصعب في مساحات انتشار الإرهابيين، وبدأت هجومها من محورين: شرقاً، من جرود فليطا السورية، وجنوباً، من جرود عرسال المتصلة بجرود نحلة. وفي اليوم الاول، حقق المقاومون أهدافهم، المتمثلة في السيطرة على مواقع مهمة، وخاصة منها تلال حاكمة، يصل ارتفاع بعضها إلى 2500 متر عن سطح البحر.
وبالتوازي مع العمليات العسكرية، تحدّث معلومات أمنية أمس عن أن الشيخ مصطفى الحجيري، «أبو طاقية»، عاد ليحاول فتح صفحة جديدة من المفاوضات، لإقناع «أمير» جبهة النصرة في الجرود، أبو مالك التلّي، بالمغادرة إلى إدلب. لكن المصادر لفتت إلى أنه بعد بدء المعركة، لم يعد ممكناً الحديث عن خروج المسلحين بآلياتهم وعتادهم وكامل أسلحتهم إلى إدلب، بل صار لزاماً عليهم ركوب الباصات الخضراء، أسوة بباقي المسلحين الذين انتقلوا إلى المحافظة السورية الشمالية في الأشهر الماضية.
عملية تطهير جرود عرسال ليست وليدة اللحظة. عام 2015 شهد مرحلتها الاولى، يوم نفّذ حزب الله والجيش السوري عملية واسعة، أدت إلى حصر وجود الإرهابيين في جرود عرسال وراس بعلبك والقاع. ولاحقاً، تحرّك الجيش السوري والمقاومة من الجهة السورية للحدود، بهدف إبعاد المسلحين عن الأراضي اللبنانية قدر الإمكان. لكن التجربة مع المسلحين أظهرت أنهم يستخدمون تمركزهم في بقعة جغرافية لتوسيع رقعة انتشارهم وتنفيذ الهجمات (كما حصل في القاع سابقاً). كذلك أظهرت تحقيقات الأجهزة الأمنية مع كل الخلايا التي تمّ توقيفها في العامين الأخيرين، أن للمسلحين الموجودين في الجرود دوراً أساسياً في الهجمات التي ضربت الأراضي اللبنانية، سواء تلك التي استهدفت الجيش أو المدنيين. وعلى هذا الأساس نفّذ الجيش اللبناني عملية مداهمات في مخيمات النازحين، بعد التأكد من أن المسلحين يشكلون خطراً عليهم، كما على الأمن في الداخل اللبناني.
وفي الأشهر الماضية، ومنذ ما قبل اتفاق الزبداني – مضايا – كفريا – الفوعة في سوريا، بدأت عملية التفاوض مع المسلحين للخروج من الجرود. لكنهم فوّتوا الفرصة، نتيجة إصرار قائدهم أبو مالك التلي على وضع شروط تعجيزية، كالانتقال بالسلاح إلى تركيا، ومنها إلى إدلب السورية.
مع سقوط المفاوضات، انطلقت عملية تحرير الجرود عند الساعة الخامسة فجر أمس.
المقاومة ترى نفسها غير محشورة بالوقت، لأن أولويتها تحقيق نتيجة بأقل خسائر ممكنة. وفيما كان لافتاً غياب أيّ مواقف سياسية يعوّل عليها ضد المعركة، أعلن الجيش اللبناني استنفاره، منفذاً إجراءات أمنية مشدّدة على تخوم عرسال (وفي كافة المناطق البقاعية)، حيث أقفل كل المعابر من الجرود باتجاهها، بهدف إحكام الطوق بشكل كامل لمنع أي تسلل إلى مواقعه، ولحماية المدنيين. وبعدما رصد أكثر من محاولة للتسلل، استهدف بمدفعيته تجمعات للمسلحين.


 


المعطيات التي توافرت حتى ليل أمس أكدت أن المعارك التي دارت كانت طاحنة، وهي لا تزال مستمرة، ولا أحد يستطيع تحديد المدى الزمني لها أو التطورات الميدانية التي تحصل كل ساعة. لكن من الواضح أن المقاومة قد اجتازت مرحلة مهمّة وصعبة، بعدما سيطرت على جزء من منطقة الكسارات التي تتمركز فيها جبهة النصرة بأسلحتها المتوسطة والثقيلة. وبالتالي يُمكن القول إن خطّ الدفاع الأول لجبهة النصرة قد كُسِر. وما تمت السيطرة عليه يتيح للمقاومة الإشراف على وادي الخيل، أحد أهم مواقع النصرة.
ومن يعرف طبيعة جرود السلسلة الشرقية من الجانبين السوري واللبناني في فليطا وعرسال، يُدرك جيداً صعوبة معركة تحرير الجرود. تلال استراتيجية ووديان وعرة ومساحات واسعة، مع مغاور كبيرة وأنفاق، وتحصينات دأب مسلحو «جبهة النصرة» على بنائها طوال السنوات الست الماضية. إلا أن مقاتلي المقاومة خبروا منذ عام 2015، تاريخ تحرير الجزء الأول من السلسلة الشرقية (جرود بريتال وبعلبك ويونين ونحلة، والجبة وجزء من فليطا)، تلك الصعوبات الجغرافية، وطريقة قتال الإرهابيين، سواء في «جبهة النصرة» أو «داعش»، ما يتيح لهم التحكم في مجريات المعركة. وبناءً على ذلك، حققوا تقدماً في التلال والأودية من محورين أساسيين: الأول من جرود فليطا في القلمون الغربي (أقصى شرق جرود عرسال)، والثاني من الجزء المحرر من أعالي وادي عطا في جرود عرسال (جنوب جرود عرسال)، باتجاه تلة ضهر الهوة وسهل الرهوة وتلة القنزح، لتتوزع الفرق بعدها إلى عدة محاور، باتجاه وادي عويس ووادي القارية ووادي المعيصرة.
مسلحو «جبهة النصرة» في موازاة ذلك عمدوا إلى التحصن في التلال المرتفعة، والاعتماد على أعمال القنص والألغام والعبوات التي زرعت في الممرات التي من الممكن أن يسلكها المقاومون. مقاتلو الحزب في المقابل اعتمدوا على استطلاعهم المسبق، واستخدموا كثافة نيران وقصفاً مدفعياً وصاروخياً عنيفاً، مع غارات للطائرات الحربية السورية، الأمر الذي سمح بتكبيد مسلّحي «النصرة» خسائر كبيرة في المقاتلين، ودفع المقاومة إلى التقدم والسيطرة على سهل الرهوة وضهر الهوة، والضغط أكثر باتجاه تلة القنزح ووادي الدب ووادي القارية ووادي المعيصرة، تمهيداً للإطباق من عدة محاور على حرف وادي الخيل ووادي الخيل.
وفي الوقت الذي تابعت فيه المقاومة والجيش السوري تحرير جرود فليطا، والسيطرة على مرتفع الكرة الأول ومرتفع ضليل الحاج ومرتفع حرف الصعبة، دمرت المقاومة آليتين للنصرة على طريق فرعي في وادي حميد، وسيطرت على وادي دقيق ووادي زعرور مع موقع تفتناز في تلة القنزح، مع استهداف تجمع لمسلحي النصرة عند مثلث وادي الخيل وادي العويني بصاروخ ثقيل قصير المدى، ما أدى إلى مقتل عدد كبير من مسلحي النصرة وتدمير مقرهم.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن سير العمليات يوم أمس من المتوقع أن يتكرر اليوم.
سياسياً، واكب وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق الوضع في جرود عرسال وتفاعلاته في الداخل والتدابير الواجب اتخاذها لحماية المدنيين وسبل مكافحة شحن النفوس خلال ترؤسه اجتماعاً استثنائياً لمجلس الأمن المركزي بحسب بيانه، وأبقى جلساته مفتوحة لمتابعة التطورات. وانقسمت الآراء السياسية بين داعم للجيش والمقاومة في عملية تحرير الجرود، ومن رأى أن حماية الأراضي اللبنانية هي مسؤولية الجيش وحده.