لطالما تحدّثت الجمعيات الحقوقية والنسائية والمنظمات العالمية عن حجم الهوّة بين رواتب الرجال ورواتب النساء بالنسبة لنفس المهمّة والكفاءة، وأيضاً تدور الشكاوى النسائية حول مدى سيطرة الرجال على المراكز المهنية المهمّة في غالبية المؤسسات العالمية، ما يَضرب مبدأ المساواة بين النساء والرجال عرض الحائط.قد يعتقد الناظر إلى المرأة الغربية أنّها حائزة على جميع حقوقها، ولكن معاينة بسيطة لواقعها تكشف تقدُّم الرجال بأشواط، وخصوصاً على الصعيد المهني. ومن المعلوم أنّ مَن يملك المال والسلطة يسيطر، فأين المساواة إذاً؟
الرواتب في «بي بي سي»...
بهدفِ الكشف عن الهوّة بين رواتب الرجال ورواتب النساء أمرَت الحكومة البريطانية، هيئة الإذاعة والتلفزيون «بي.بي.سي» بكشفِ رواتب كبار الصحافيين ونجوم الإعلام العاملين لديها للمرّة الأولى. وها هي الأرقام تكشف فعلاً حجم الفروقات الفادحة التي تنادي بها الجمعيات وتدركها المرأة الغربية جيّداً.
فقد تَصدّرَ المذيع التليفزيوني، كريس إيفانز، قائمة بي بي سي، براتب يتراوح بين 2.2 و2.25 مليون جنيه استرليني للعام 2016/2017. في المقابل، تصدّرَت كلوديا وينكلمان قائمة النساء الأعلى أجراً، براتب يترواح ما بين 450 و500 ألف جنيه استرليني في العام. تبيّنَ أنّ راتب المرأة الأعلى أجراً في كنفِ المؤسسة الإعلامية الأكبر في بريطانيا يقلّ بأربعة أضعاف عن أعلى راتب يتقاضاه رجل.
التفاوت حتّى في العدد
ضمَّ تقرير بي بي سي، أسماءَ الحائزين على رواتب تزيد عن 150 ألف جنيه استرليني سنوياً، ولم تزِد نسبة النساء في قائمة التقرير على الثلث! وتصدّرَ القائمة خلف إيفانز أكثرُ من خمسة رجال، لتطلَّ بعدهم أوّلُ امرأة على القائمة.
وتعليقاً على التقرير لفتَ المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية، توني هول، إلى الحاجة لاتّخاذ «مزيد من الإجراءات وبوتيرة أسرع» لمعالجة قضية المساواة بين الجنسين، لكنّه شدّد على أنّ بي بي سي «تسير بوتيرة أسرع من أيّ مؤسسة إعلامية أخرى.» ولفتَ هول إلى أنّه يريد تحقيقَ المساواة بين مقدّمي البرامج والمذيعين على شاشة الهيئة وأثيرها، مشيراً إلى أنّه على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، كانت نسبة النساء من بين العاملين الجدد والموظفين المترقّين في التلفزيون والراديو نحو 63 في المئة»، واعتبَر أنّ ذلك المجهود المبذول لازال غيرَ كافٍ.
الهوّة العالمية
هذا الواقع لا ينطبق على بي بي سي أو على شركات الإعلام وحدها، فتقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس»، لفتَ إلى أنّ تقاضي الرجال والنساء حول العالم رواتبَ متساوية لن يتمّ قبل العام 2133 أي بعد حوالى 116 عاماً، إذا ما استمرّت وتيرة تطوير القوانين والعمل على دعمِ حقوقِ المرأة على ما هي عليه. إلّا أنّنا في لبنان نتأرجح بين أكثر من واقع.
ماذا عن لبنان؟
في لبنان لا تقلّ نسبة النساء المتعلّمات أبداً، بل هنّ يتفوّقن على الرجال. إحصاءات حديثة تدلّ على أنّ النساء يشكّلنَ نسبة 54 في المئة من خريجي الجامعات، ولكنّ نسبة النساء العاملات لا تتعدّى الـ 23 في المئة. هذه الأرقام الخطيرة تشير بأصابع الاتّهام إلى الصورة النمطية التي تحصر المرأة بقالب الزواج والإنجاب والتفرّغ لتربية الأولاد. فهذه الصورة التقليدية لازالت جدَّ مسيطرةٍ على المجتمع، وتحرم البلاد من عدد كبير من الطاقات.
ولربّما يشكّل تدنّي رواتب النساء أيضاً عائقاً أمام استمرارهنّ في العمل بعد الزواج، فمن لن يكفيَها راتبها لدفع قسطِ طفلٍ أو طفلين في الحضانة أو لجلبِ مدبّرة منزل تساعدها ستفضّلُ حتماً بمباركة زوجها المكوثَ في المنزل لتربية أولادها بدل العمل لدفع كامل الراتب «قسوطات». فلا يخفى على أحد أنّ الناس يعانون تداعيات الأزمات الاقتصادية والمعيشية في عدد كبير من القطاعات، ولا سيّما النساء.
بين التعليم والإعلام
صحيح أنّ بعض القطاعات في لبنان حاوَل ردم الهوّةِ بين النساء والرجال، إلّا أنّها لازالت شاسعة. بالنسبة لمهنة التعليم مثلاً، في لبنان كما في غالبية دول العالم تسيطر النساء على هذه المهنة، حيث تصل «نسبة النساء في المدارس الخاصة في لبنان إلى 85 في المئة».
غياب الرجال شِبه الكامل عن صفوف الصغار وزيادة عددِهم في الصفوف الثانوية يعود لارتباط مهنة التعليم، وخصوصاً للصغار، بالصورة النمطية للمرأة التي تؤدّي دور الأم والحاضنة.
ولكن اللافت أنّ قطاع التعليم في لبنان يؤمّن للنساء المساواة في الأجور مع الرجال، بالنسبة لنفس العمل والكفاءة، إذ يُعيَّن راتب المعلّمين والمعلمات حسب الشهادة التي يَحملونها، بغضّ النظر عن جنسهم.
أمّا بالنسبة لمهنة الإعلام مثلاً والتي تختارها النساء بكثافة أيضاً، فالأمر مختلف. يكفي النظر إلى كلّية الإعلام في الجامعة اللبنانية منذ أكثر من 10 سنوات إلى اليوم لملاحظة السيطرة شِبه الكاملة للعنصر النسائي على مقاعد طالبي هذا التخصّص. فيبدو أنّ لهذه المهنة طابعاً اجتماعياً يجذب الفتيات، لا سيّما أنها تَعِد ببعض الشهرة التي تحلم بها كثيرات.
ولكن، طغيان الفتيات على الاختصاص لا يقابله طغيان على المراكز القيادية في عدد كبير من المؤسسات الإعلامية. فالإعلام المرئي على سبيل المثال، لازال يستخدم المرأةَ الصحافية والإعلامية للعرض، هي تطلّ بكعبٍ عالٍ وثيابٍ سكسي وشعرٍ جذّاب غالباً، بناءً لرغبة صاحب المؤسسة الذي يهتمّ باختيار الجميلات، أمّا الهدف فاستخدام حضور المرأة لإثارة المشاهد ولفتِ انتباهه. ولكن في الحقيقة هذه النجمة اللمّاعة الجذابة غالباً ما تكون مرؤوسةً من رَجل يدير أبسَط خطواتها ويُدقّق كلّ كلماتها.
وفي طلّ هذا الواقع، تقلّ رواتب النساء عن رواتب الرجال، وحتّى يَعمد بعض المدراء إلى توظيفهنّ وهم متأكّدون من أنّهنّ يرضين بأجور متدنّية بشكل خيالي، إذ يَسعين إلى التقدّم في قطاع يضجّ بطالبات التوظيف من شتّى الاختصاصات.