قل “الجيش اللبناني وبس” اهتف لقائد الجيش ورئيس الجمهورية، اشتم كل ما هو سوري. هذا ما تطلبه مجموعة من غلاة الوطنية اللبنانية خلال قيامهم بحفلة تنكيل بلاجئ سوري وفق ما يظهره فيديو انتشر بقوة في بلاد الأرز.
لعل الكامن وراء تصوير الفيديو وعرضه، هو ما يقدمه من اقتراح إنشاء تعريف للسوري اللاجئ في لبنان بوصفه كائنا لن يحب الجيش، وقائده ورئيس الجمهورية إلا مرغما، وبعد خضوعه للضرب والإهانة. هذه هي صفة السوري والتي لا تنازعها أي صفة أخرى في قدرتها على عرض حقيقة السوري بشكل دقيق وحاسم.
لم يخطر على بال صنّاع هذا التعريف أنهم يساهمون في توسيع دائرة المشترك بين جزء كبير من اللبنانيين وبين هذا التعريف للسوري، إذ أن مسار الحال اللبناني يكشف أن وضع اللبنانيين بات مطابقا لحال السوريين المنكل بهم.
اللبنانيون غير قادرين على حب الجيش وقائده ورئيس البلاد إلا بواسطة التنكيل والإهانة. هذا ما يقوله خطاب السلطات بجميع أنواعها وما تقوله الممارسات المتغطية بحب الجيش تجاه اللبنانيين والتي باتت سمة المشهد اللبناني.
يجول جنديان بثياب مدنية بسيارة في ساحة قرية الفاكهة في حالة سكر شديد كما يؤكد بيان البلدية متعرضين لأهل القرية بالإهانات. ينشب خلاف بينهم وبين شباب القرية، تدخل إثره قوة عسكرية مع مجموعة من الآليات يرافقها مسببا المشكلة بثيابهما العسكرية إلى القرية وتنكل بأهلها، وبكل من صادف وجوده في المكان، وتعتقل أكثر من عشرين شابا بعد إشباعهم ضربا وتعذيبا تسبب للبعض بإصابات خطيرة.
هكذا تحول شباب قرية الفاكهة إلى لاجئين سوريين لا يحبون الجيش إلا تحت التعذيب. إذا كان حب الجيش متأصلا في نفوس اللبنانيين ومزروعا في قلوبهم من أبد الآبدين، فلماذا لا يتجلى هذا الغرام إلا مقرونا وملتصقا بحملات تنكيل صارت توحد بين السوريين وبين اللبنانيين من غير المتمتعين بأوصاف المقاومة والممانعة.
العلاقة مع الجيش إذن ليست علاقة مواطنة بل علاقة إيمانية يحكمها المقدس نازعا منها البنية الحقوقية والقانونية والمؤسساتية، ما يحولها إلى حالة طقوسية شعائرية تحل فيها الخرافات محل السياسة.
كذلك قد يكون من الضروري الانتباه إلى خطاب اللاجئ الواقع تحت نير التنكيل وكيف أنه وعلى الرغم من شيوع ظواهر الاعتداء وتكرارها بوتيرة عالية فإن ذلك لم ينجح في بلورة تعامل خاص مع القمع اللبناني، أو منحه أي خصوصية تفصله عن شكل القمع.
كان اللاجئ يئن صارخا “حاضر سيدي” مكررا أنات المعذبين في سوريا الأسد بشكل حرفي، يؤكد أنه لا يستطيع أن يتمثل التعذيب اللبناني إلا بوصفه استنساخا للتعذيب.
هكذا تضاف إلى مرارة التعذيب مرارة ذات طبيعة ساخرة تقول إن اللبنانيين لم ينجحوا حتى في إنتاج حالة لبنانية أصيلة من التنكيل، بل عمدوا إلى استعادة ملامح التنكيل الأسدي وتكراره كوصفة جاهزة يتوفر بين أيديهم دليل استعمالها، بل نعلم أن الخبرة بهذا التنكيل محفورة في ذاكرة الكثير من اللبنانيين وعلى أجسادهم، ومنتشرة في الفضاء العام، وفي قلب السيكولوجيا الناظمة للسلوك اللبناني.
تتدفق هذه الخبرة اللبنانية بمطواعية على جسد اللاجئ السوري مقرونة بإجباره على شتم وتحقير كل ما هو سوري، وحين يفعل يتبع ذلك بقوله “شو دخلني بسوريا”. يعتبر المنكّلون أنهم انتصروا، وأن آية انتصارهم التي شاهدها الجميع تتمثل في نجاحهم في انتزاع سورية هذا اللاجئ السوري.
يمثل هذا البعد تحديدا روح الانتصار اللبناني الوهمي على السوريين والذي يشكل القاسم المشترك بين هؤلاء المنكّلين باللاجئ السوري وبين التنكيل الرسمي والحكومي والدولي، وذلك التنكيل الخاص الذي تمارسه الجمعيات الإنسانية والحقوقية.
حين انتزع التنكيل سورية اللاجئ تحول إلى كائن بيولوجي بمعنى أنه لم يعد ممثلا لشيء يقع خارج حاجاته البيولوجية المباشرة، وبذلك صار آيلا لرحمة ليست سوى ذروة الازدراء، لأنها تهدف إلى إدامة مكوثه في ما هو عليه من احتضار طويل.
ينزع هذا التعامل عن الخاضع لنيره الأشد قسوة من التعذيب والبراميل المتفجرة أي علاقة بالزمن ويفصله عن تاريخه، بمعنى أنه يفترض أن هذا الكائن لم يكن يوما خارج هذا الوضع، ما يؤسس لتصور يريد أن يقول إن معاناته ليست سوى صفة لصيقة به ومحفورة في جيناته بشكل قدري. هكذا تتم تبرئة الجميع من المسؤولية عن مأساة اللاجئ السوري فهي لم تحدث بفعل فاعل، ولكنها بعض ما يفيض من داخله من صفات لا تسمح له سوى أن يكون آيلا للتعذيب من ناحية، وللشفقة التي تحول هذا التعذيب إلى مصير أبدي ونهائي من ناحية أخرى.
نقع نحن اللبنانيين في دائرة التطابق مع حال اللاجئ السوري لناحية الجهود الحثيثة التي تبذل لتحويلنا إلى كائنات بيولوجية محضة عاجزة عن إنتاج السياسة والتفكير تحت نير التجويع والضرائب والعسكرة العامة التي تلف ظلالها السوداء البلد مغرقة كل ما فيه من سياسة، وفن، وثقافة، واقتصاد في دوامة حداد مفتوح غير قابل للإنجاز.
نُعذّب فنحب الجيش والوطن والرئيس أو الجيش والشعب والمقاومة إذا شئنا توخي الدقة وهذا الحب مشروط بالتعذيب ولا يكون إلا به.
ولعل الخطاب الاحتفالي الذي صممه أحد معذبي اللاجئ في الفيديو خلال استعدادهم للاعتداء، والذي حاول منحه بنية التمهيد الساخر للانقضاض عليه يلخص الأحوال بشكل مكثف وموجز.
قال “كلنا ضد الجيش، وأنا مع داعش وهو مع النظام”. كلمة الحق سبقت كما يقول المثل، وهذه هي الحقيقة الأكثر خيالا من الخيال.