ما يشهده العالم الإفتراضي في هذا الأسبوع من حملات تحريضية متبادلة بين الشعبين السوري واللبناني هو تأكيد للمؤكد بأننا شعوب لا نتعلم من تجارب ومآسي الماضي.
اليوم يظهر إلى الواجهة بوضوح وحش العنصرية الذي نخفيه دائما بسلوك إجتماعي من هنا وبرستيج مقنع من هناك وعند أول منزلق يتبين أننا كلنا عنصريون في ساعة الجد.
أقول هذا الكلام لأن حملات الكراهية والتحريض التي حصلت خصوصا بعد أحداث عرسال الأخيرة، شارك فيها نخب من فنانين وإعلاميين وصحافيين ولم تقتصر على العامة فقط من كلا الجهتين.
وهذا ما يؤكد أننا أمام إختبار حقيقي لفحص ما تبقى من إنسانية لدينا في عالم المتغيرات اليوم ، فالعنصرية أصبحت وللأسف جزء من الحملات الإنتخابية ومكون أساسي من هويات الشعوب التي لا بد أنها ستدفع فاتورتها في يوم من الأيام.
إقرأ أيضا : برسم العقلاء... الفتنة بين الشعبين السوري واللبناني تذر قرونها
العبرة في دروس الماضي:
ما يزيد الأمر كارثية وقبحا هو أننا كلبنانيين بالأخص عشنا تجربة الحرب الأهلية في 1975 التي كان الوجود الفلسطيني أحد مسبباتها.
عندها تطلب الأمر وجود غبيين، لبناني متمسك بتطرف بهويته الوطنية وفلسطيني لم يحترم كفاية الإحتضان الشعبي والرسمي له على الأرض اللبنانية.
لكن مع هذا لم تكن حرب 13 نيسان 1975 قدرا للبنانيين لو أن بعض الأغبياء في الطرفين تم التعامل معهم بالأسلوب المناسب بل إنزلق الوضع إلى حفلة مزايدات بالوطنية من جهة وبالعروبة والدفاع عن القضية الفلسطينية من جهة أخرى فنشبت الحرب.
نشبت الحرب الأهلية في اللحظة التي تراكمت فيها كميات الحقد والكراهية فلم يعد بإستطاعة الأقنعة الإجتماعية والإنسانية أن تخفيها وبدل أن تشارك النخب حينها في لجم الفتنة، ركبت موجة المزايدات فبرز خطابين متباعدين ومتطرفين أحدهما لليمين وينادي بالوطنية المتطرفة المنسلخة عن محيطها العربي وآخر يساري ومستفز للأول في أطروحاته وينادي بالقضية الفلسطينية وكان لا يزال يحن للوحدة مع سوريا.
أمام هذا الواقع ، دخل لبنان في حرب أهلية بدأت بين الفلسطينيين بتحالف مع اليسار اللبناني ضد اليمين اللبناني المسيحي والذي تحالف في حقبات متقدمة مع إسرائيل.
لكن لم تنته الحرب الأهلية إلا بإقتتال مسيحي - مسيحي ومن الطرف الآخر مسلم - مسلم، فأدرك اللبنانيون متأخرين أنهم كانوا أداة لتحقيق مصالح الدول الإقليمية والعظمى.
إقرأ أيضا : هكذا تحدَّث الفقهاء عن الوطن؟!
الخاسر الأكبر:
ومع أن المعركة كانت خسارة مدوية لجميع الأطراف إلا أن هناك طرفا واحدا دفع الفاتورة الأكبر وهو المسيحي في لبنان.
فتدمرت مناطقه وتهجر شبابه وسجنت أو نفيت قياداته التاريخية أو إغتيلت كما حصل مع الرئيس الراحل بشير الجميل.
وتنازل المسيحيون في إتفاق الطائف عن العديد من الصلاحيات التي يحاربون اليوم من أجل إستعادتها.
أما الفلسطيني فتغيرت نظرة العالم لقضيته، قدم تنازلات كثيرة لكنه كسب قيام سلطة في الضفة وغزة وتحققت أمنية أبو عمار بدوس أرض فلسطين وإعتراف العالم به.
من هذه النتائج البارزة أمام العيان لا بد أن ينظر شباب لبنان وسوريا وبالأخص المسيحيون منهم، فالتطرف والمغالاة والعنصرية قد تودي بهم إلى التهلكة هذه المرة، خصوصا في زمن هيجان الطموحات العرقية والإثنية والمذهبية، وفي معارك كبرى كهذه تدفع الأقليات دوما الفاتورة الأكبر.
إقرأ أيضا : اللبنانيون ينتفضون إفتراضيا... لا للضرائب !
لذلك ما يحصل اليوم هو محاكاة لما حصل قبيل 13 نيسان 1975 ، وعلى الشباب بالأخص أن يعوا أن لعبة العنصرية وإستفزاز مشاعر الغير ( المشاعر القومية والعرقية والدينية ) هي لعبة متدحرجة تبدأ من بوست على الفايسبوك وقد لا تنته فقط ببوسطة كبوسطة عين الرمانة بل بحرب حقيقية ودامية.
وليسأل هؤلاء الشباب المتحمس عن أحوال الذين قاتلوا في الحرب الأهلية، أين هم؟ ومن ركب على ظهورهم لتسلق أعلى المراتب الحزبية وفي الدولة ؟ هل هم مستعدون ليكرروا غباء من سبقهم؟ ستكون حينها لعنة أبدية على لبنان وسوريا.
وبدل ذلك، فليفجر هذا الشباب حماسهم وغضبهم وعنصريتهم ضد مسؤولي الطبقة السياسية ولينظموا تظاهرات ليطالبوا بحقوقهم، بالكهرباء والماء والإنترنت ولرفض زيادة الضرائب ولمحاربة الفساد بدل التلهي بمزايدات عنصرية ستهدم الهيكل على رؤوس الجميع.