أراد الرئيس إيمانويل ماكرون، أن لا يكون رئيساً «عادياً» كما سلَفَه فرنسوا هولاند، ولم يخفِ مشاعره ولا إرادته بأن يكون رئيساً استثنائياً. وكما كان المرشح – المستعجل جداً للفوز برئاسة فرنسا، فإنه يبدو حالياً وقبل أن ينهي المائة يوم الأولى من رئاسته، مستعجلاً جداً لرسم موقعٍ له يؤكد قدراته ومواهبه على التغيير، وأنه إذا لم يكن يريد تغيير «الجمهورية الخامسة» بـ«جمهورية سادسة»، فإنه قادر على التغيير في قلب «الجمهورية الخامسة»، ودفعها للخروج من «غرفة العناية الفائقة»، تساعده في ذلك الأغلبية المُطلقة التي حازها في الانتخابات التشريعية الأخيرة، نتيجةً لصعود «الماكرونية» في فضاء الحياة الشعبية والسياسية الفرنسية كما لم يحصل من قبل منذ الجنرال شارل ديغول حتى اليوم.
المعضلة، أنّه توجد مشكلة حقيقية بين الطموح والرغبات، وبين التنفيذ وتحويله الى رصيد يؤهل لحصاد غني، يجعل رئيساً مثل ماكرون، رئيساً استثنائياً. لا شك أنّ الرئيس ماكرون الذي هو أصغر رؤساء فرنسا سناً، يريد بما يملك من قدرة وقوة على العمل، أن يشرع في حركة التغيير التي تنهض بفرنسا وتعيدها الى واجهة العالم سواء في الشراكة بصناعة الأحداث أو في احتلال المواقع التي تستحقها.
هذه الإرادة وهذه السرعة في القيادة، تدفعان ماكرون كما يبدو حتى الآن، إلى العمل بأساليب جديدة على الإليزيه. أبرز ما في هذا المسار، الجمع بين السياسة والإدارة النابعة من تجربته المصرفية الناجحة. لذلك يبدو ماكرون أحياناً وكأنّه يتصرّف مثل رئيس شركة ضخمة. كل العالم لديه «زبائن»، يجب إرضاؤهم للحصول على تواقيعهم على العقود الممكنة. من ذلك أنّ الرئيس الفرنسي وفي أقلّ من ستّين يوماً، التقى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل وأجرى معها «محادثات ناجحة» رغم أن عودة فرنسا بهذا الزخم تعني العودة إلى المنافسة على زعامة أوروبا بين باريس وبرلين. بداية ذلك تكون في عودة التوازن والعلاقات الألمانية – الفرنسية بعد أن اختلت كثيراً لمصلحة ألمانيا.
وجد ماكرون في ذكرى مرور 300 سنة على زيارة «القيصر» بطرس الأكبر إلى باريس، مناسبة استثنائية لدعوة «القيصر» فلاديمير بوتين إلى قصر فرساي، وإجراء محادثات أعادت انطلاق «قطار» العلاقات الروسية – الفرنسية على سكة التفاهم بدلاً من التباعد رغم استمرار بعض الخلافات. وما ذلك سوى لأنّ ماكرون يعرف أنّ الانخراط في صناعة الأحداث الدولية ورسم الأدوار وأخذ المواقع المناسبة على خريطة العالم، لا يمكن أن يحصل بدون التفاهم مع «القيصر». وقد جاء توقيت المبادرة، في وقت ما زالت العلاقات الأوروبية – الروسية معلّقة على وقع «الكراسي الموسيقية» للأزمة الأوكرانية. بذلك يكون ماكرون، ودائماً انطلاقاً من عقلية «رجل المصارف» البارع قد سلّف «القيصر» قبل وصوله إلى «فرساي» مما فتح له ممراً الى عقله يمكّنه من استثماره خلال المحادثات.
من «القطب الشمالي» إلى «القطب الجنوبي». الرئيس دونالد ترامب الذي يعاني المساءلات الداخلية التي تهدد رئاسته يومياً، ويعاني أيضاً من كيفية التعامل مع العالم، لأنه «رئيس العالم» ويتصرف كأنّه رئيس «الشركة الترامبية»، جاءته الدعوة المفاجئة للمشاركة في احتفالات 14 تموز الفرنسية من الرئيس الفرنسي مثل «خشبة الإنقاذ»، خصوصاً أنّ مثل هذه الدعوة يتم التحضير لها عادة قبل سنة.
الرئيس ماكرون، عمل مثل «رئيس شركة» موازٍ لترامب، فقام بكل ما يلزم للاحتفاء به، حتى أن المستشارة ميركيل فوجئت بالدعوة وبأسلوبها، وحتى بتفاصيلها التي تجاوزت كل الأعراف الفرنسية الدقيقة جداً. هذا الاحتفاء ضمن لماكرون على الأقل موضعاً له في «قلب» ترامب المُحاصر في واشنطن، إذ ليس قليلاً أن يُطل من باريس على العالم في وقت لا يمكنه أن يُطل على الأميركيين من البيت الأبيض بحرية وقوة.
ولم يتوقف ماكرون عند هذا الفعل الذي اعتبره نجاحاً غير مسبوق، فاختار اقتحام الشرق الأوسط من جهة والعقل اليهودي الفرنسي من جهة أخرى، فدعا نتنياهو بمناسبة حملة «فيل ديف» التي جرت خلال الحرب العالمية الثانية وطالت حوالى 15 ألف يهودي بينهم ثلاثة آلاف طفل لم يرجع منهم سوى حوالى مائة يهودي فرنسي.
لكن هذه الدعوة التي ربطها بانفتاح الرئيس جاك شيراك على الاعتراف بمسؤولية فرنسا بهذه الجريمة ضد الإنسانية، أوقعت الرئيس ماكرون، في جملة أخطاء إلى درجة أنّ العديد من اليهود الفرنسيين اعتبروها «فضيحة». وقد اختصرت المخرجة والكاتبة «سيمون بيتون» الموقف بقولها: «كيهودية أشعر أنني مُهانة حتى أعمق أعماقي، اليهود الذين أرسلوا الى «الشووا» ليسوا إسرائيليين. إن حملة «فيل ديف» هي قصة فرنسية – فرنسية وفرنسية – ألمانية. لا يجب الخلط بين اليهودية والصهيونية، واليهودية والاحتلال واليهودي واليمين المتطرف. إنني أتقيأ من نتنياهو وخطابه الذي حاول فيه استخدام الذاكرة واستثمارها لمصلحته».
«بيبي العزيز» كما أطلق ماكرون على نتنياهو المأزوم في الداخل الإسرائيلي بسبب فساده خصوصاً في صفقة الغواصات الألمانية، لن يُقدّم له شيئاً على صعيد حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. كل ما يمكنه الحصول عليه بعض التصفيق من اليمين الإسرائيلي المتطرّف. أي حل في الشرق الأوسط يتطلب تفاهماً مع العرب والفلسطينيين كما مع الإسرائيليين. الصمت العربي على مبادرة ماكرون نحو «العزيز بيبي» موقّت لأنه مرتبط بمرحلة الانهيار الشامل نتيجة لكل الحروب التي تعيشها المنطقة في الداخل وفي الخارج، لذلك فإن «بيع» ماكرون «حديد» موقفه المتطرف مع إسرائيل ببعض العواطف والتشدد ضد إيران لن ينجح في صياغة الحل. السرعة تُفيد أحياناً، لكن في بعض الحالات تُسبب الحوادث المُكلفة.