نُقِلت أخيراً محادثة جرت بين مسؤول عربي مشرقي كبير وشخصية لبنانية إلى مرجع سياسي لبناني، وفحواها أنّ الأوّل فتح خريطةً لانتشار «داعش» في منطقة المشرق العربي، وأشار بإبهامه فوقها إلى نقطة صغيرة تقع على حدود لبنان الشمالية، وهجا أحرف اسمِها المكتوبة بحجم صغير والمحاطة بدائرة حمراء: «عرسال». وعلّق قائلاً: «هناك ثلاث بؤَر لـ»داعش» اتُخِذ قرارٌ بتصفيتها، وهي: الموصل والرقة وعرسال».
 

لقد حصَلت هذه المحادثة قبل نحو شهر من الآن، حينها لم تكن القوات العراقية قد أكملت تحرير الموصل من «داعش»، فيما موضوع الدخول الى الرقة لإخراج أبو بكر البغدادي منها، كان لا يزال موضع أخذٍ وردّ بين تركيا التي تشترط دخولها باستبعاد مشاركة «قوات الحماية الكردية» فيها، فيما الولايات المتحدة الاميركية تصرّ على دور أساس للأكراد.

وحينها كان قد بدا أنّ هناك عملية مقايضة يتمّ طبخُها على نار هادئة بين موسكو وواشنطن، فالأولى باتت معنية بدير الزور اكثر ممّا هي معنية بالرقة، فيما ترامب يرتاح الى هذه الاولوية الروسية، ويرى فيها معادلة مقايضة يَمنح بموجبها بوتين دير الزور، فيما الاخير يترك له الرقة لكي يرفعَ علم النصر الاميركي على «داعش» فيها، وهو أمرٌ يحتاجه الاخير في نزاعه لكسبِ نقاط وازنة على خصومه الكثر داخل الولايات المتحدة.

كلّ الجهات اللبنانية ذات الصلة بإشكالية تحريرعرسال من «داعش» و»جبهة النصرة»، تبلّغَت، أو وصَلت اليها تعليمة القرار الدولي المدعوم أميركياً بقوّة، وهو أنّ قدر عرسال هو نفسُه قدر الرقة والموصل، ولا إمكانية لتغييره. السفير الاميركي السابق في مجلس الامن جون بولتن الذي حضَر مؤتمر المعارضة الايرانية منذ ايام في باريس، أكّد بحسب معلومات لـ»الجمهورية» في محادثات له على هامش المؤتمر، أنّ قرار ترامب هو إخراج «داعش» من الرقة قبل نهاية هذه السَنة. فيما الشخصية العربية الكبيرة أكّدت لمحادثها اللبناني انّه بين معركتَي الموصل والرقة ستحصل معركة عرسال.

ثمّة مخاوف عميقة تُساور دوائرَ لبنانية تتابع قضية عرسال كما تتفاعل داخل المستويات الخارجية، أو «من فوق»، حسب وصفِ هذه الدوائر، ويعود سبب هذه المخاوف الى أمرين اثنين اساسيين:

ـ الأمر الاوّل يتأتّى من كون القرار الدولي يضع عرسال ضمن سلّة قرارته بصفتها احدى البؤر الثلاث التي يجب إخراج «داعش» منها هذه السنة، بغضّ النظر عن الكلفة الإنسانية التي ستنتج من ذلك. وتقول هذه الدوائر: صحيح انّ القرار الدولي لإخراج «داعش» وشقيقاتها من عرسال يساهم في تأمين غطاء داخلي لقرار حسمها.

ولكنّه في الوقت نفسه يثير الرعبَ من ان تكون الكلفة على اهاليها وعلى النازحين فيها وحولها، ضخمة، ومشابهة لِما حدث في الموصل وما يمكن ان يحدث في الرقة، خصوصاً في حال قرّرت كلّ من «داعش» و«النصرة» في منطقة عرسال عدم الموافقة على تسوية لخروجهما منها سِلماً.

وتقود هذه المعادلة المطروحة على هذا النحو، الى طرح تساؤلات عن سبل إنقاذ عرسال - الاهالي والبلدة والنازحين السوريين فيها وفي منطقتها- من تكرار حريق الموصل فيها، الذي أدّى إلى تهجير ومقتل آلاف المدنيين، أو ذاك المتوقع في الرقة!؟.

بكلام آخر، فإنّ مصدر الخوف يتأتّى من أنّ مجرّد وضعِ عرسال ضمن سلّة القرار الدولي بصفتها إحدى بؤر «داعش» الثلاث المطلوب التخلّص منها قبل نهاية هذه السنة، هو أمرٌ يثير الخوفَ من أن يتمّ سحب نموذج ما حصل في الموصل وما سيحصل في الرقة عليها، أي أن تدفع البلدة وأهلها والنازحون فيها ثمنَ وضعِهم داخلَ معادلة حادّة القطبين، ومفادُها من جهة «حزم القرار الدولي بإنهاء «داعش» فيها مهما كان الثمن» في مقابل إصرار «الدواعش» و«النصرة»، من جهة ثانية على أسلوب اتّخاذ المدنيين النازحين، وأيضاً العراسلة، دروعاً بشرية، وهدفُهم من ذلك: أوّلاً، جعلُ خسارتهم للمعركة تتمّ ببطء، أي إطالة أمدِ المعركة. وثانياً، جعلُ كلفة هزيمتهم كارثية على المدنيين وعلى الصورة المعنوية للجيوش والقوى التي تشارك في تنفيذ هذه المهمّة.

ولعلّ هذا التخوّف الذي تطرحه معركة عرسال هو ما يفسّر محاولات الجيش اللبناني جسَّ نبضِ إمكانيةِ خوض معركة عرسال بأقلّ كلفة من الخسائرعلى النازحين والعراسلة، وذلك من خلال القيام بعمليات استباقية هدفُها استئصال وجود الخلايا النائمة الإرهابية في مخميّات النازحين، مقدّمةً لتحريرهم من قدرة الإرهابيين على استخدامهم دروعاً بشرية، وأيضاً خلق حواجز تحول بينهم وبين قدرتهم على نقل المعركة الى داخل عرسال البلدة، ما يجعل الأخيرة، في نظر الإعلام العالمي وبتحريض دولي، ذاتَ رمزية تُظهرها وكأنّها عاصمة «داعش» في لبنان على وزن ما للموصل من رمزية تحمل هذا المعنى في العراق وما للرقّة أيضاً في سوريا.

ولعلّ أصعبَ تحدٍ يواجه لبنان في شأن معركة عرسال ضدّ الإرهابيين هو سُبل النجاح في جعلها «معركة نظيفة»، وتحاشي مطبّات انزلاقها إلى معركة مكلفة إنسانياً، وتحاشي تصوير عرسال أنّها عاصمة لـ«داعش» في لبنان يتبارى أطراف الهجوم عليها لزرع عَلم النصر فيها لحصدِ مكاسب إعلامية وسياسية، كما حصَل في شأن الموصل وما يحصل الآن في شأن الرقة، خصوصاً أنّ ميدان معركة عرسال مُركَّب وله ضفاف عدة، سوريّة وإقليمية وعالمية وأيضا لبنانية، ناهيك عن ضفّته الإرهابية المعولمة، وكلّ هذا التشعّب يؤدي إلى تعقيد التحكّم بمجريات معركتها.

ـ الأمر الثاني يتّصل بما يؤشّر له بعض العسكريين الخبراء في توقّع هذا النوع من المعارك. وفي رأي هؤلاء فإنّ بدءَ الهجوم من الجانب السوري على مواقع «داعش» و»النصرة» في القلمون العرسالي والسوري، تأخَّر بسبب حاجة الجيش السوري وحليفه «حزب الله» في المرحلة القريبة الماضية إلى الحشد في منطقة تدمر، فيما «داعش» و»النصرة» تمهّلتا في استباقهما في فتح الحرب في منطقة عرسال نظراً لكونهما تفضّلان خوضَها في الشتاء لاعتقادهما أنّ صعوبة الطقس تناسب تكتياتهما القتالية أكثر، وتجعل خصومهما أقلَّ قدرةً على المناورة وتحييد سلاح الجوّ.

الآن انتهت الحاجة إلى الحشد في تدمر، وفي المقابل أيقَن إرهابيّو «داعش» و»النصرة» أنّ الحرب عليهما لن تنتظر إلى الشتاء المقبل، وعليه، بات مرجّحاً أنّ هذه المعركة المحتملة دخلت لحظة سباق بين الطرفين لتسديد ضربة مباغتة للطرف الآخر، ومعسكر الإرهابيين يحتاج إلى تنفيذ هذه الضربة المباغتة أكثر من الطرف الآخر، ولذلك لا يُستَبعَد أن تحاول «داعش» أو «النصرة» القيامَ بعملية أسرٍ كبيرة لجنود أو مدنيّين، تؤدّي إلى خلطِ أوراق استعدادات بدءِ الهجوم الوشيك ضدّهما.