هذه القوة التي نجحت في أكثر من محطة في إسكات حركات الاعتراض وتطويقها، كانت تتوافر لديها البدائل التي منحتها غطاءً شرعياً وعقائدياً لكي تتصدى لحالات الرفض التي تتزايد داخل المجتمع، وضمن الطبقة السياسية التي تؤمن بمشروع الدولة، والتي تقترب أكثر فأكثر من مواجهة مؤسسة ولاية الفقيه؛ ما قد يدفع بعض أجنحة السلطة الراديكالية إلى الدعوة لاتخاذ خطوات يمكن وصفها بالانقلابية تتجاوز الدستور والأعراف والمنطق والعقل، من أجل حماية النظام الثوري، وذلك من خلال إطفاء شرعية ما فوق بشرية عليه تصل إلى حد القداسة.
ففي طريق البحث عن شرعية مقدسة للنظام أو قدسية لشرعية النظام، أصبحت العودة إلى الأدبيات الفقهية التي يتبناها هؤلاء الذين يعطون موقع الولي الفقيه صفة القداسة، ويؤمنون بعصمته، وفي مقدمتهم رجل الدين الإيراني المتشدد آية الله مصباح يزيد، الذي يعرف عنه رفضه فكرة الدولة أو الجمهورية التي تستمد شرعيتها من الشعب، ودعوته إلى إقامة «الإمارة الإسلامية» باعتبار أن شرعية الولي الفقيه مستمدة من طروحات غيبية يتبناها بعض فقهاء قُم، والتي تعتبر الولي الفقيه نائباً للإمام المهدي وهو (الإمام الثاني عشر الغائب لدى المسلمين الشيعة)، ويدخل في هذا السياق ما قاله أحد مراجع حوزة قم آية الله خليل مبشر كاشاني «أن جزءاً من الولاية التكوينية التي يتمتع بها أئمة أهل البيت (والولاية التكوينية لدى بعض المراجع الشيعية هي إرادة المعصوم نبياً كان أم وصياً، وهي من مبادئ تحقق الإرادة الإلهية) قد انتقل جزء منها من خلال الإمام المهدي المنتظر إلى الولي الفقيه». ففي حديثه لوكالة «تنسيم» التابعة للحرس الثوري قال كاشاني حرفياً: إن ولاية الولي الفقيه هي ولاية تكوينية يتمكن الولي الفقيه بموجبها من التحكم في «مجريات كونية»!!.
في الإطار نفسه، يمكن وضع تصريحات ممثل المرشد في الحرس الثوري الشيخ علي سعيدي بأن ولاية خامنئي ولاية الله على الأرض، وأن الولي الفقيه لديه تواصل سماوي... ضمن آليات جديدة تعتمدها السلطة من أجل تجديد هويتها الشرعية بعيداً عن الموقف الشعبي منها. هذا الاستنفار العقائدي في صفوف التيار المحافظ تصاعد، بعد أن تلقى مرشحه لرئاسة الجمهورية السيد إبراهيم رئيسي خسارة قاسية أمام منافسه المعتدل الشيخ حسن روحاني، وهي خسارة حرمت رئيسي من الحصول على تفويض شعبي يمهد الطريق أمامه لخلافة خامنئي؛ ما دفع الشيخ علي سعيدي إلى القول: إن ربط شرعية الولي الفقيه بالتأييد الشعبي ينافي أسس دين الإسلام، وأن دور الشعب هو التعاون في إقامة النظام الإسلامي، وليس إعطاء الشرعية للولي الفقيه.
تاريخياً، لم تحتج عملية انتقال السلطة في إيران بعد وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني سنة 1989 إلى استدعاء الغيبيات، أو الاستعانة بالمقدس من أجل تثبيت شرعية المرشح أو أهليته، فقد اكتفى مجلس خبراء القيادة بما نقله الرئيس الإيراني الأسبق الراحل الشيخ هاشمي رفسنجاني عن آية الله الخميني حول أهلية السيد علي خامنئي في تبوء هذا المنصب، فمما لا شك فيه أن الشيخ رفسنجاني والسيد خامنئي كانا يتمتعان بشرعية ثورية وشعبية سمحت لهما بترتيب البيت الداخلي الإيراني بعد رحيل الخميني، وهذا ما لم يعد متاحاً الآن بعد رحيل رفسنجاني.
هذا إضافة إلى عدم قدرة التيار المحافظ على تجديد نفسه وتطوير خطابه؛ فالثورة التي لم تبلغ سن الأربعين بعد، دخلت في مرحلة شيخوخة مبكرة، كشفت عن أعطاب جوهرية يصعب إصلاحها، وعن فشل ذريع للنظام في إعادة تأهيل صفوفه، وإنتاج أدوات جديدة تؤهله للاستمرار في السلطة، كما كشفت عن انفصام بين الواقع والحقيقة يسود الطبقة الحاكمة التي باتت أسيرة أوهام توسع إمبراطوري وصول إلى البحر المتوسط، في حين مؤشرات الداخل تحمل علامات بانفجار سياسي واجتماعي لم يعد بعيداً، انفجار أصبحت مواعيده أكثر وضوحاً، وهي مرتبطة بعوامل داخلية عدة، أخطرها غياب مفاجئ للمرشد يفجر الخلافات داخل معسكر المحافظين أو تفاقم الأزمة المعيشية، حيث يتهم الحرس بعرقلة النمو الاقتصادي أو انتكاسة خارجية تنعكس على الداخل تؤدي إلى مواجهة بين العسكر والشعب، حيث يصح القول هنا للإيرانيين «ولكم في السوفيات أسوة حسنة».