وقد أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، رسمياً، الإثنين 10 تموز 2017، عبر التلفزيون الحكومي، النصر على تنظيم "داعش" في الموصل، وقال العبادي في خطاب: "أُعلن من هنا وللعالم أجمع، انتهاء وفشل وانهيار دولة الخرافة والإرهاب الداعشي الذي أعلنه الدواعش من هنا من مدينة الموصل قبل 3 سنوات".
وكانت الغارات الجوية الأميركية، بتكلفةٍ تزيد على 13 مليون دولار يومياً، بالإضافة إلى المستشارين العسكريين وفرق القوات الخاصة، محورية في كلا الحملتين اللتين انطلقتا في أواخر الخريف الماضي.
لكن -وبحسب ما تقول مجلة "النيويوركر" الأميركية- من المبكر جداً الاحتفال بهزيمة داعش. فمنذ صعود التطرف الجهادي قبل 4 عقود، تبيَّن أن من سماته الأكثر ديمومة، من خلال تجلياته دائمة التطور، هي قدرته على إعادة تأسيس وإحياء الحركات التي بدا أنَّها قد هُزِمَت.
وتضرب المجلة مثالاً بزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن الذي خرج من أفغانستان في خزي عام 1989، بعد أن تسببت حساباته الخاطئة في مقتل الآلاف من المقاتلين العرب. وتم طرده من السودان، وفقد جنسيته السعودية في التسعينيات. وعاد مرةً أخرى لتنفيذ هجمات 2001 على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في أميركا، إلا أنَّه اضطر للفرار من أفغانستان، وتخلى عن مقاتليه في تورا بورا ليختبئ. وبعد عقدٍ من الزمان، قُتِلَ بن لادن في غارةٍ خاطفة قامت بها مجموعة من البحرية الأميركية، وأُلقيت جثته في البحر.
ويقول علي صوفان في كتابه الجديد "The Anatomy of Terror: From the Death of bin Laden to the Rise of the Islamic State": "في كل مرة كان يبدو أن تنظيم القاعدة قد انتهى، لكنَّه تعافى فعلاً وعاد أقوى مما كان عليه". واليوم، يقول صوفان إنَّ تنظيم القاعدة أكثر خطورة من أي وقتٍ مضى: "هذا النموذج الجديد للتنظيم لم ينجُ فقط من مقتل مؤسسه، بل نجح في زيادة عدد أعضائه بشكلٍ كبير".
عاد أقوى مما كان
وقد اتبع تنظيم داعش نمطاً مشابهاً، بحسب ما توضح النيويوركر، ويقول صوفان إن التنظيم في أول ظهور له في العراق كان "على وشك الانهيار عامي 2007 و2008، فقيادته العليا تعرضت إما للقتل، أو السجن، أو قررت الاختباء". وتصدى للتنظيم عشرات الآلاف من رجال القبائل العراقية المدعومة من الولايات المتحدة. وتقلّصت صفوفه الجهادية إلى بضع عشرات من الرجال أُجبِرُوا على العيش تحت الأرض.
غير أنَّ زعيمها الجديد أبوبكر البغدادي، وفي غضون 7 سنوات، أعاد تنظيم مجموعته وأعاد تشكيلها. وبحلول عام 2015، كان قد اجتذب أكثر من 30 ألف مقاتل، من 100 دولة، للقتال من أجل أول خلافة حديثة. وعلى الرغم من معدل الوفيات المروع في ساحة المعركة، حيث وصل إلى نحو 10 آلاف مقاتل في السنة، واصل الآلاف الانضمام للتنظيم.
وبمناسبة إخراج داعش من الموصل، أعلن العراق أسبوعاً من الاحتفالات. هرب البغدادي منذ فترةٍ طويلة من الموصل، حيث أعلن لأول مرة الخلافة؛ وادَّعى الروس أنَّهم قتلوه في غارةٍ جوية في سوريا.
مصير البغدادي غير واضح، لكن تجربة داعش في الحكم، في مساحةٍ بحجم ولاية إنديانا الأميركية أو بحجم بلدٍ مثل الأردن، فشلت بشكلٍ قاطع. وقد زار رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الموصل أمس الأحد، وهنأ "المقاتلين الأبطال والشعب العراقي على النصر الكبير".
ومن المقرر أن يجتمع التحالف بقيادة الولايات المتحدة في واشنطن هذا الأسبوع لمناقشة إعادة الاستقرار إلى المناطق المحررة في العراق وسوريا.
ومع ذلك، يحذر صوفان من أنَّ "القوة المتزايدة لولايات التنظيم، خاصةً في ليبيا، تشير إلى أنَّ داعش، مثله مثل تنظيم القاعدة، قد يكون مستعداً للتطور إلى مظلة متعددة الجنسيات تضم عدداً من الفروع". وفي ذروتها، أنتجت داعش 8 فروع، مع 37 ولاية، من الجزائر إلى القوقاز، ومن أفغانستان إلى اليمن، على الرغم من ضعف بعض هذه الولايات، وهزيمة وخمول بعضها الآخر. ولا تزال الظروف التي أدت لنشأة مثل هذه المجموعات الجهادية المسلحة متفشية في العراق، وسوريا، وأجزاءٍ كبيرة من هذه المنطقة الأكثر تقلباً في العالم.
يعرف صوفان، الأميركي اللبناني، جيداً موضوع التنظيمات الجهادية المتطرفة. وعندما كان عميلاً بمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، كان يتعقب نشاط القاعدة منذ أول إعلان لابن لادن للحرب على الولايات المتحدة قبل عقدين. وفي وقت وقوع هجمات 11 أيلول، كان صوفان من بين عددٍ قليل من الناطقين باللغة العربية في مكتب التحقيقات الفيدرالي، واستجوب في وقتٍ لاحق سجناء القاعدة.
من أكثر المواضيع إثارة للاهتمام في كتاب صوفان الثاني هو الخلاف، والتناحر، وحتى الاقتتال المميت بين الجهاديين أنفسهم. لقد كانت بمثابة حبكة أو مؤامرة ثانوية لعقودٍ من الزمن. والشقاق الأكبر اليوم هو بين القاعدة وداعش، التنظيمين الإرهابيين الأكثر دموية في العالم. اندلع هذا الشقاق في شباط 2014، بعد أن بدأ داعش الاستيلاء على الأراضي. وادعى البغدادي السيادة على العالم الجهادي؛ وأعرب عن اعتقاده بأنَّ داعش كان "كياناً حاكماً حقيقياً، ومن ثمّ فهو متفوقٌ على أي تنظيمٍ جهادي آخر، بما في ذلك التنظيم الأم، القاعدة"، حسب رواية صوفان. بدأ البغدادي في تحدي أوامر القاعدة، بما في ذلك أمر وقف قتل الإخوة المسلمين والتعاون مع الفروع الأخرى. وأصبح أكثر نزوعاً للقتل باسم الخلافة الناشئة.
وفي رسالةٍ نُشرت على الإنترنت، كشف رئيس تنظيم القاعدة أيمن الظواهري عن غضبه، واستنكر علناً تصرفات البغدادي، وأخلى مسؤوليته عن أعمال داعش. وأوضح الظواهري، الذي خلف أسامة بن لادن في وقتٍ لاحق، أنَّه من الأفضل أن يكون هناك عشرة أتباع راشدين عن "عشرات الآلاف الذين يجعلون الأمة الإسلامية تكرههم وتكره أفعالهم وسلوكياتهم".
وبدأ التنظيمان يبغض كلٌ منهما الأخرى بقدر ما يكرهان عدوهما المشترك في الغرب. وبعد مرور 3 سنوات، لا تزال العلاقة بينهما واحدةً من أقل الجوانب وضوحاً في الجهاد العالمي، وأقل تلك الجوانب استغلالاً من قبل سلطات مكافحة الإرهاب كذلك.
استراتيجيات جديدة
الانقسام مهم في فهم ما قد يحدث بعد انهيار الخلافة. لم يكن تنظيم القاعدة وداعش ببساطة يتنافسان على السلطة والمكانة في عالم التنظيمات الجهادية؛ فقد اختلفت استراتيجيتهما بشكلٍ عميق. التزم تنظيم القاعدة بالصبر في طريق إقامة الخلافة. وتم تحديد استراتيجيته ثلاثية المحاور في كتابٍ بعنوان "The Management of Savagery" نُشِرَ في مجلة القاعدة "صوت الجهاد". وتتلخص المرحلة الأولى في إثارة الفوضى واستغلال فراغات السلطة التي تليها.
وتتركز المرحلة الثانية في تعبئة الدعم الشعبي للحكم السلفي الأصولي القائم على طرق الحياة والحكم وقت ظهور الإسلام على يد النبي محمد في القرن السابع. ويوضح صوفان أنَّه بالنسبة لتنظيم القاعدة، فإنَّ الدولة الإسلامية "لا يمكن أن تدوم أبداً إلا بعد أن يقتنع أغلب مواطنيها بأنَّها هي الطريقة الصحيحة للحكم".
وفي المرحلة النهائية فقط يمكن للجماعات الجهادية تأسيس الخلافة. وقد رفض بن لادن بشكلٍ متكرر الإذن لفروع القاعدة بإعلان قيام أي إمارة إسلامية أو محاولة تولي السلطة. حتى أنَّه رأى أنَّ عودة الخلافة قد لا تحدث في حياته.
كان لداعش مخططٌ مختلف. إذ تآمر للاستيلاء على الأراضي، ومن ثمّ إرغام المسلمين قسراً على الانضمام إلى صفوفه، أو مواجهة الموت. وكتب صوفان قائلاً إنَّ البغدادي "لا يهتم على الإطلاق بفكرة بناء التوافق". وأصبح أمير داعش أكثر جرأة في مزاعمه في منتصف عام 2014، عندما استولى مقاتلوه على المزيد من الأراضي أكثر من التي حكمها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في بداية نشأة الإسلام.
ويقول صوفان إنَّ الحركتين "وصلتا إلى طريقٍ مسدود في ظل مواقفهما الطاغية المتنافسة.. وكان من الواضح بشكلٍ متزايد أنَّ عالم الجهاد لم يكن كبيراً بما فيه الكفاية لكلٍ منهما. واليوم، في ظل الانقسام بين تنظيم القاعدة وداعش، نشهد صراعاً داخل الخط الجهادي السلفي نفسه، وهو انقسام لا يدور حول الهدف النهائي، إذ إن كلا الجانبين يؤمن باستعادة الخلافة، لكن يدور حول سرعة الوصول لهذا الهدف".
الحركة الجهادية مليئة بالانشقاقات، ليس فقط بين الجماعات، لكن أيضاً داخل الجماعات، حتى داخل القاعدة نفسها. كما حدث مع سيف العدل، مصري الجنسية وأحد أهم 3 أشخاص بين مساعدي بن لادن، الذي حشد الخلية التي هاجمت سفارتين أميركيتين في إفريقيا عام 1998. لكنَّه مع ذلك، وكما هو الحال مع معظم أعضاء مجلس الشورى الذي نصح بن لادن، عارض هجمات 11 أيلول عام 2001، محذراً من أنَّ التداعيات خطيرةٌ جداً. وداخل طالبان، أيدّ البعض بن لادن، وعارضه البعض الآخر؛ واليوم، لدى طالبان فصائل مؤيدة وأخرى معارضة للتفاوض مع الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة في كابول. وقد شهد تنظيم داعش مثل هذه الانقسامات كذلك. وشملت الوثائق التي تم التقاطها في غاراتٍ على منازل آمنة لداعش أو تُرِكَت وراء أفراده رسائل، بعضها شكاوى، والبعض الآخر يتساءل عن التكتيكات عديمة الرحمة.
ويقول صوفان إنَّ الانقسامات الداخلية على المستوى الاستراتيجي، والتكتيكي، والسياسي، والشخصي تتحدى فكرة عالم السياسة صامويل هنتنغتون عن "صدام الحضارات". وأضاف أنَّ "نظرةً واحدة على الشبكة المعقدة من الصراع الذي يجتاح الشرق الأوسط المعاصر تكفي للإشارة إلى أنَّ العالم قد عاد إلى قاعدة الصراع داخل الحضارات: السُّنة تحارب الشيعة، والفرس يتعاركون مع العرب، والأتراك يعانون مع الأكراد، وصولاً إلى التناحر على مستوى القبائل والطوائف والأحياء. وجميع المقاتلين الكبار مسلمون؛ ورغم قوتهما العسكرية الهائلة، لا يمكن للقوى الخارجية مثل الولايات المتحدة وروسيا أن تؤثرا على النتائج سوى بشكلٍ هامشي في أحسن الأحوال"، وفق ما ذكرت المجلة الأميركية.
بعد الزوال النهائي لحلم الخلافة، يواجه تنظيما داعش والقاعدة قراراتٍ وجودية. وأكبر قرار، حسب صوفان، هو ما إذا كانت لديهما رغبةٌ في رأب الصدع ولمّ الشمل. ويعتقد صوفان أنَّهما قد يقبعان تحت سلطة النجم الصاعد لابن بن لادن المفضل، حمزة، الذي اعتُقِلَ مع والدته في إيران لعدة سنوات. ظهر بن لادن الصغير في أول مقطع صوتي له عام 2015، وقدمه الظواهري على أنَّه "أسدٌ من مقاتلي القاعدة". ومن المؤكد أنَّ داعش لم يعد قادراً على زعم التفوق في عالم الجهاد المسلح.
ويتكهن صوفان قائلاً: "لو عاد تنظيم داعش مرةً أخرى بلا دولة، وعاد فردٌ من عائلة بن لادن مرةً أخرى على رأس تنظيم القاعدة، سيعود جهاديو داعش إلى التنظيم الأم، وإلى الشكل العالمي للجهاد الذي كان يدعو إليه والد حمزة الموقر". وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ الهزيمة العسكرية لداعش قد تمهد الطريق لعودة تنظيم القاعدة في صورةٍ أكثر قوة.
(هاف بوست عربي)