من «الاستدعاء» الاستعراضي لقائد الجيش العماد جوزيف عون الى القصر الحكومي، وصولا الى تعمد التصريح لا «التسريب» بعد اللقاء لمنح المؤسسة العسكرية الدعم السياسي والتغطية غير المشروطة، هل بدّل رئيس الحكومة سعد الحريري موقفه؟ ام ثمة من أساء فهمه وفسر الامور على هواه؟ وماذا عن تأثير موقفه العلني الرافض لاي عملية عسكرية يقوم بها حزب الله في الجرود على اللمسات الاخيرة تحضيرا للمعركة؟ هل ستأخذ المقاومة في «عين الاعتبار» عدم رضاه، ام ان ما «كتب قد كتب»؟
هذه الاسئلة شكلت خلال الساعات القليلة الماضية محور المتابعات السياسية في البلاد في غياب اي حراك داخلي جدي في ظل حالة الاسترخاء المقرر استمرارها لاشهر عديدة تسبق بقليل موعد الانتخابات النيابية، ولولا ملفي الجرود، ومكافحة الارهاب، ومسألة النزوح السوري، التي جاءت من خارج جدول اعمال رئيس الحكومة، لكانت مهرجانات الصيف وحدها في صدارة الاهتمام والمتابعة.
اوساط وزارية بارزة ذكّرت في حديثها لـ«الديار» بالمثل الفرنسي الشهير «ابحثوا عن المرأة»، وقالت ان سر تراجع رئيس الحكومة عن «الدعسة» الناقصة المتمثلة ببيان «الاستدعاء» لقائد الجيش، يمكن اختصاره بالقول: «ابحثوا عن اميركا»، فرئيس الحكومة الذي يستعد للقيام بزيارة رسمية الى واشنطن في 21 الجاري، تجاوز حسابات واشنطن المحلية القائمة على نظرية استمرار دعم المؤسسة العسكرية «المحسوب بدقة» لكي لا يحصل «فراغ» يستفيد منه حزب الله، وانساق وراء حملة «شعبوية» استهدفت المؤسسة العسكرية، عندما نصحه أحد مستشاريه بضرورة اتخاذ موقف ما لارضاء جمهوره «الغاضب» من ما حصل، فكان «البيان» الشهير الذي لم يحقق الغرض من اصداره، وهو موقف يشبه تلك الخطوة «المتهورة» التي قام بها عندما نزل لمخاطبة المعتصمين امام القصر الحكومي، بناء على نصيحة احدى الاعلاميات...!
 

 

 «ساعات فاصلة»  


وبحسب معلومات تلك الاوساط، فان الساعات الفاصلة بين صدور البيان، وموعد اللقاء، حصلت اتصالات اميركية عالية المستوى مع رئيس الحكومة لاستيضاح طبيعة موقفه، وابلاغه بضرورة عدم ضرب معنويات الجيش في مواجهته مع «الارهاب» ، وكذلك عدم تكبيل حركته في منطقة حيوية ومهمة، وقد يؤدي تراجع دوره فيها الى اعطاء «الذرائع» لقوى اخرى كي تتوسع في تحركاتها. طبعا لم تنحصر الاتصالات بالاميركيين، وانما جرى التواصل بين بعبدا والقصر الحكومي، وتولد انطباع واضح عند الرئيس الحريري بان الرئيس ميشال عون غير راض عن خطوته، خصوصا لناحية «الشكل»، كما تمت مناقشة حيثيات ما حصل في مخيمات اللاجئين في عرسال، ووعد الحريري بتبني موقف داعم للجيش، مصححا الخلل القانوني، وطلب من وزير الدفاع يعقوب الصراف حضور الاجتماع.
وعلمت «الديار» ان وزير الدفاع وقائد الجيش خرجا مرتاحين من الاجتماع، فالعماد عون شرح باسهاب ما حصل خلال الايام القليلة الماضية، وقدم شروحات وافية عن الوضع على الحدود الشرقية، وعرض لما تعرضت له وحدات الجيش خلال عملية المداهمة، وكيف تصرف الجنود والضباط بمناقبية عالية على الرغم من خطورة الموقف، وتحدث عن ملابسات وفاة الموقوفين السوريين الاربعة، مؤكدا ان مسارالتحقيقات الداخلية مستمر وسيفضي الى نتائج واضحة وشفافة، فكان رد فعل رئيس الحكومة ايجابيا ومتفهما، لكنه اوحى خلال كلامه بانه في مكان ما كان محرجا، وكان لا بد من التحرك لمواجهة التساؤلات، وعلامات الاستفهام، وابلغهما انه سيقوم بتصريح علني بعد الاجتماع، لكي لا تفسر الامور على غير حقيقتها!
 

 «تطهير» الجرود


وحيال رفض الرئيس الحريري لقيام حزب الله باي عملية عسكرية لتطهير الجرود، اكدت اوساط قيادية بارزة معنية بهذا الملف، ان كلامه لن يقدم او يؤخر في الوقائع شيئا، وهو امر يدركه جيدا رئيس الحكومة الذي لا يملك القدرة على منع ذلك، ولا يملك ايضا الحجج المنطقية التي تبرر موقفه، لكنه عمليا «غسل يديه» عشية ذهابه الى واشنطن من اي تطورات ستحصل على الحدود سواء حصل ذلك قبل ذهابه او خلال وجوده هناك. فالعملية العسكرية المقررة لم تأجل وما تزال في موعدها المحدد، مئات المقاتلين باتوا مع عتادهم في مواقعهم الهجومية بانتظار اشارة البدء بالهجوم، لا شيء سيوقف العملية الا قبول المجموعات الارهابية بشروط التسوية.
وبحسب تلك الاوساط، فان الحريري لا يملك ايضا منع الجيش بالقيام بدوره «الحمائي» للاراضي اللبنانية، وهو الدور المناط به في هذه العملية، وهو يملك الغطاء السياسي من القائد الاعلى للقوات المسلحة الرئيس ميشال عون الذي ما يزال يعمل تحت سقف القسم الرئاسي، حيث قال: «سنتعامل مع الإرهاب استباقيًا وردعيًا وتصديًا، حتّى القضاء عليه»، وهو لا يعترض طبعا عملية «تنظيف» الجرود، مدركا ان حزب الله سيتولى المهمة انطلاقا من القلمون الغربي والجهة السورية من الحدود، وقيادة الجيش في اجواء هذه العملية.
وتلفت تلك الاوساط الى ان حزب الله يتعامل مع هذه المناطق على انها محتلة ويجب تحريرها، وحتى وزير الداخلية نهاد المشنوق صنفها في هذا الاطار، ويبقى السؤال حول خلفية هذا الرفض الصريح للحريري، فهل يتحمل مسؤولية هجوم جديد من قبل تلك المجموعات الارهابية على قرى بقاعية كما حصل في بلدة القاع مثلا؟ وماذا عن السيارات المفخخة التي كانت تجهز في تلك المناطق؟ اليس اول المستفيدين من «التحرير» هم اهالي عرسال؟ الفرصة متاحة الان للتخلص من هذه المخاطر، وحزب الله لن يفوتها.
 

 «رسالة» لمن؟


وفي هذا السياق تبدو رسالة الحريري للاميركيين وليس لحزب الله، وبحسب مصادر دبلوماسية في بيروت، فان واشنطن تعمل على ترتيب الاولويات، وتحرص على تأ جيل الحسم على الحدود اللبنانية الشرقية، بانتظار تبلور طبيعة التفاهمات مع الروس، وما حصل في جنوب سوريا خير دليل على ذلك، فلولا الغطاء الاميركي لما كان دخل الأردن كطرف مباشر في الترتيبات العسكرية، ويأمل الاميركيون بان تتمكن موسكو من إبعاد حزب الله والفصائل التي تدور في فلك ايران حتى عمق 70 كيلومترا شمالي الجنوب السوري وبعيداً عن الحدود الأردنية. 
وفي هذا السياق يرغب رئيس الحكومة بشدة في تأجيل اي عملية عسكرية على الحدود الى ما بعد زيارته الى الولايات المتحدة، فهو يحتاج الى الاطلاع على حقيقة ما تمخضت عنه القمة الروسية ـ الاميركية، بعد ان نمي اليه عبر بعض الاصدقاء في واشنطن بان ما حصل على الحدود الاردنية السورية، يشكل محطة اولى لاختبار النوايا على تقاسم النفوذ بين واشنطن وموسكو، وهو يرغب في معرفة اين موقع لبنان من هذه «الصفقة»؟ مع ادراكه المسبق بان واشنطن لا ترغب في ان يحقق حزب الله اي انتصار جديد خصوصا ان هذه المعركة ستكون آخر المواجهات على الحدود اللبنانية ـ السورية، وهذا يعني ضياع هذه «الورقة» الضاغطة.
 

 ازمة النزوح


وفي مسألة النزوح السوري الى لبنان علمت «الديار»، ان التوجه العام للقوى المطالبة بضرورة التفاوض مع الدولة السورية لاعادة النازحين، ستزيد ضغوطها في المرحلة المقبلة لعدم تضييع الفرصة الراهنة، خصوصا انها تبلغت من التيار الوطني الحر انه يعتبر مسألة اعادة اللاجئين على رأس اولوياته، وهو يشكل احد التحديات المركزية للعهد، في المرحلة المقبلة، وذّكرت اوساط «التيار» بما ورد في خطاب القسم عن «تأمين العودة السريعة لهؤلاء بالتعاون مع الدول والسلطات المعنية، وبالتنسيق المسؤول مع منظّمة الأمم المتحدة التي ساهم لبنان في تأسيسها»، والسلطات المعنية، المقصود بها الدولة السورية التي لا يمكن تجاوزها، شيئا فشيئا سيتحول هذا الملف الى مادة انتخابية لدى «التيار البرتقالي» الذي يعرف مدى حساسية جمهوره امام هذا الملف، وهذا سيكون اول اختبار للتفاهم الذي حصل مع رئيس الحكومة ابان الاتفاق على التسوية الرئاسية.