كان كلاهما يحتاج إلى هذه القمة الأولى بينهما في هامبورغ. الرئيس دونالد ترامب الذي بدا كأنه معزول أوروبيا بسبب جملة من المواقف التي أثارت زعماء القارة العجوز وقادة آخرين. ألغى اتفاق باريس للمناخ ورفع الصوت لتوكيد نزعته الحمائية في التجارة الدولية. والرئيس فلاديمير بوتين هو الآخر يخوض صراعا مع دول الاتحاد ومع الولايات المتحدة لإلغاء العقوبات المستمرة على بلاده، منذ ضمه شبه جزيرة القرم. فتحا «مسارا إيجابيا». تقدما «خطوات صغيرة»، على حد تعبير «نيويورك تايمز». سيد الكرملين فتح على الأقل كوة في الجدار الذي رفعته الإدارة الأمريكية السابقة. الرئيس باراك أوباما رفع متأخرا الإنفاق في موازنة الدفاع للعام 2017 من أجل ما سمي مواجهة «الاعتداءات الروسية». إضافة إلى انتقاداته اللاذعة لبوتين بأنه صعّد الخطاب السياسي والإعلامي المناهض لأميريكا، منذ عودته إلى سدة الرئاسة بعد شريكه ديمتري مدفيديف، كما كانت الحال أيام الحرب الباردة. كان الود مفقودا بين الرجلين. بخلاف الصورة اليوم. الرئيس بوتين تحدث أخيرا عن «أصدقاء» لبلاده في واشنطن. وحمل بشدة على الإدارة السابقة لصنعها ظروفا تحول دون تنفيذ الرئيس الجديد وعوده الانتخابية، وبينها تحسين العلاقة مع موسكو.
لم تخرج القمة بقرارات أو تفاهمات كبيرة. التقدم نحو مكافحة الحرب الإلكترونية خطوة صغيرة أمام التعاون الملح لتشديد الرقابة على انتشار الأسلحة النووية، أو التعاون العسكري في مواجهة الإرهاب، وهو ما تعارضه قوى في الحزبين الأمريكيين، الجمهوري والديموقراطي، قبل أن تبدل روسيا في سلوكها حيال جملة من القضايا التي تبدأ بأوكرانيا ولا تنتهي في سوريا. ولا يبدو الرئيس بوتين مستعجلا في تبديل سياساته ما لم يرغم واشنطن على الاعتراف بمصالحه الاستراتيجية، والكف عما يعتبره مسا بفضائها الأمني في أوروبا الشرقية ومناطق أخرى، كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي.
لا يشعر بالحاجة إلى تنازلات، لأنه يحقق نجاحا في تعكير العلاقات الأمريكية - الأوروبية. لأنه لا يحتاج إلى توحيد مواقف مختلفة سياسية وعسكرية وأمنية في إدارته. يكاد يمسك وحده بكل خيوط اللعبة في الداخل. ولا تعوزه الحنكة في بناء علاقات أو تحالفات من الصين إلى إيران وحتى المنطقة العربية وشمال إفريقيا، تعزز فرص قيام أكثر من قطب يحرم أمريكا استئثارها بإدارة شؤون العالم، إذا كانت ظروف روسيا وما شهده ويشهده العالم من تغيرات لا تتيح لها إحياء أو بعث الحرب الباردة. وما دام أن الصين تحرص على عدم تكرار موقف الحياد الذي لزمته أيام الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية، بل باتت لها مصالح متشعبة خارج سورها وباتساع عالم تجارتها وصناعاتها في طول الكرة وعرضها. وما دام أن أوروبا باتت تشعر بالحاجة إلى استعادة ثقتها بقدراتها الاقتصادية والعسكرية. في حين أن الرئيس ترامب لا يشعر بعزلة دولية فحسب بل تطارده المتاعب الداخلية، مع الكونغرس والقضاء والقوى الحزبية المختلفة. ولا يخفي استعجاله لتفاهم مع نظيره الروسي. الأمر الذي يشجع الأخير على المضي قدما في سياسة الهيمنة على أوروبا الشرقية والوسطى وآسيا الوسطى، والسعي إلى استعادة دور وازن لبلاده في معظم أزمات العالم. ولا شك في أن الرد الأميركي الضعيف على انتزاع روسيا أبخازيا وأوسيتيا من جورجيا، ثم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا فالتدخل العسكري الواسع في سوريا، شجعها على مزيد من تحدي سيطرة أمريكا ومصالحها ونفوذها وموقعها الدولي الرائد.
أبرز ما تمخض عنه لقاء الرئيسين ترامب وبوتين في هامبورغ، كان الاتفاق على وقف النار جنوب سوريا. وهو خطوة صغيرة قياسا على حجم الملفات العالقة بين بلديهما. وكانت خطوة متوقعة نتيجة محادثات ومفاوضات في عمان استمرت أكثر من شهرين. وكانت متوقعة لأن الزعيمين لم يكونا راغبين في أية مواجهة. زعيم الكرملين أبدى حرصا دائما على مراعاة الطرف الأمريكي؛ لأنه لا يريد صداما معه لا في سوريا ولا في غيرها. وكان كرر في أكثر من مناسبة استحالة تسوية الأزمة السورية والصراع في الشرق الأوسط من دون تعاون بناء وتنسيق بين موسكو وواشنطن. جل ما يبتغي هو تحقيق مصالح بلاده. وهو يتقدم في هذه الطريق. وقد ترجم بالهدنة التي أعلنت في القمة الأولى بين الرجلين، حرصه على مراعاة مصالح عمان وتل أبيب اللتين لم يقطع التواصل والتنسيق معهما. لكنه في المقابل وضع حضور بلاده في بلاد الشام على المحك. فالمعروف أن إيران كانت ولا تزال راغبة في التمدد نحو الحدود الجنوبية، تماما مثل إصرارها على بقاء طريق بغداد - دمشق مفتوحة لتضمن لها استمرار الوصول إلى شاطئ المتوسط والإطلالة على حدود فلسطين. وعرقلت والنظام كثيرا من التفاهمات. علما أن آخر لقاء ثلاثي في آستانة لتقرير آليات تنفيذ «مناطق خفض التوتر»، لم يخفض سقف التناقضات بين موسكو وأنقرة وطهران. لذلك انتهى بلا نتيجة.
أكد اتفاق الزعيمين وقف النار جنوب سوريا أن الرئيس بوتين يقدم العلاقة مع الولايات المتحدة والشراكة معها على علاقته بأي قوة أخرى، أي إيران شريكته في الحرب الدائرة في بلاد الشام. والسؤال: هل ستتمكن روسيا من فرض التقيد بالهدنة التي قالت إن جنودها سيرعونها ويراقبون حدود المنطقة الجنوبية؟ إضافة إلى ذلك، لم تعرف حدود المنطقة الجنوبية المعنية بالاتفاق الذي يشكل الأردن وإسرائيل جزءا منه. فهل تشمل مثلا ما تعتقد تل أبيب بأنه فضاء أمنها الاستراتيجي؟ أي هل تصل هذه الحدود إلى ريف دمشق الجنوبي والجنوبي الشرقي وحتى المطار، إذا كان الهدف الأمريكي والإسرائيلي منع وصول الأسلحة إلى «حزب الله» في لبنان. علما أن طائرات الشحن الإيرانية تعبر الأجواء العراقية من دون أي اعتراض. ولا شك في أن الجمهورية الإسلامية مصممة على التمسك بنفوذها في المشرق العربي مهما كلفها ذلك. وكانت ولا تزال تتمنى بل تعمل على تقويض أي فرصة لقيام تعاون بين موسكو وواشنطن، خصوصا في الأزمة السورية. وقد ثبت لها أخيرا كما ثبت لجميع المعنيين بالأزمة السورية، أن هناك أخيرا سياسة أمريكية واضحة حيال سوريا. وهو ما كان ينتظره الجميع.
يبقى أن يثبت الرئيس بوتين قدرته على فرض اتفاق وقف النار على جميع المنخرطين في الحرب. بذلك يؤكد قدرته على أداء دور في رسم صورة النظام الجديد في الشرق الأوسط، إحدى أهم المناطق التي تؤسس لقيام نظام دولي جديد. ويبقى أيضا أن يثبت الرئيس ترامب جديته في تقليص نفوذ إيران وفرض أبعادها عن حدود سوريا مع إسرائيل والأردن ثم مع العراق. عندئذ، سيكون اتفاق الزعيمين على وقف النار «خطوة كبيرة» ترسم حدودا للدول الإقليمية الكبرى. والسؤال: هل تكون استعدادات «حزب الله» لحرب جرود عرسال ردا إيرانيا على نتيجة لقاء الرئيسين، وسعيا إلى تعويض ما قد يخسره في الساحة السورية، إذا نجحت واشنطن وموسكو في ترسيخ صورة نهائية لتقاسم مواقع النفوذ وفرض وقف شامل للنار مقدمة لتسوية شاملة؟