لعل أغرب ما حصل بعد العملية الاستباقية النوعية التي نفذها الجيش في بعض مخيمات عرسال هو ان «الفرع» طغى على «الاصل»، والتفاصيل ابتلعت الجوهر، بحيث صارت «الآثار الجانبية» للعملية، أهم بالنسبة الى البعض، من الانجاز النوعي الذي تحقق وأدى الى احباط هجمات ارهابية. 
غاب الانتحاريون الذين فجروا انفسهم بالعسكريين عن المشهد ليحل مكانهم الاختصاصيون في جلد الذات، وسقطت عمدا من التداول الاحزمة الناسفة والمتفجرات المكتشفة ليتم اختزال الضربة الوقائية بمقاربات جزئية لا تغطي كل زوايا الصورة.
ربما تكون قد وقعت أخطاء خلال مداهمة مخيمات عرسال او اثناء التحقيق مع الموقوفين، لكن طريقة تناولها والاضاءة عليها تنم عن خطيئة بحد ذاتها. 
بين التصويب على الجيش وتصويب أدائه فارق كبير، وما حدث هو الخلط بين الامرين، فاصيبت المؤسسة العسكرية بـ «نيران صديقة» في الظهر الذي يُفترض ان يكون محميا لا مكشوفا، خصوصا ان المعركة تخاض ضد ارهاب شرس يمكن ان يستفيد من اي خلل، للتسرب والتسلل في هذا الاتجاه او ذاك. 
والمفارقة، ان هناك من بادر الى اصدار احكام قاسية على الجيش، قبل انتهاء التحقيق في ملابسات ما جرى واتضاح الحقائق، علما انه حتى لو تبين ان هناك تجاوزات ارتكبت في سياق المداهمة او بعدها، فان الحكمة والمصلحة تستوجبان معالجتها بمسؤولية واتزان، على قاعدة استخلاص الدروس المطلوبة ومحاسبة الافراد المرتكبين حصرا، من دون التعميم الذي يشمل المؤسسة ككل.
ولعله من المفيد الاشارة الى ان أهم الجيوش في العالم واكثرها تطورا وتنظيما ترتكب اخطاء في سياق اعمالها العسكرية، واحيانا تكون كلفتها مرتفعة جدا، وليس ادل على ذلك مما ارتكبته مرارا قوات التحالف الدولي في سوريا والعراق، وكذلك القوات الروسية احيانا.
واخطر ما في الحملة التي استهدفت الجيش، انها أوحت بان هناك من تعمد افتعال الضجيج وتضخيم الثغر المفترضة لمحاولة تكبيل المؤسسة العسكرية وتقييد تحركاتها ضد الارهابيين، سواء في مخيمات النزوح او في خارجها، وهو الامر الذي تنبهت له اليرزة وقررت مواجهته على طريقتها، من خلال قرارها بالمضي في حربها الاستباقية على الارهاب، في كل مكان وزمان ضروريين، وبالتالي عدم التأثر بالتشويش الذي تعرضت له.
لا يعني ذلك باي شكل من الاشكال ان المطلوب قمع حرية التعبير ومنع توجيه النقد للمؤسسة العسكرية، تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، إلا انه من الضروري في الوقت ذاته عدم استبدال النقد الصحي بقنابل صوتية او دخانية، من شأنها ان تشوش على الجهد الذي يبذله الجيش في مواجهة الخطر التكفيري الذي يهدد لبنان، لا سيما في هذا التوقيت الدقيق.
وفيما تولت مديرية حقوق الانسان في الجيش التحقيق في بعض الظروف الملتبسة التي واكبت عملية مخيمات عرسال، استنادا الى محاضر موثقة وتقارير الطب الشرعي وإفادات شهود وشهادات عسكريين... يلتقي الرئيس سعد الحريري في السراي الحكومي، اليوم، العماد جوزيف عون الذي يُرجح ان يسلم رئيس الحكومة نتائج هذا التحقيق، علما ان الحريري كان قد استوضح خلال اتصال هاتفي مع عون ملابسات العملية، متمنيا عليه اجراء التحقيق الضروري، فابلغه قائد الجيش بان المؤسسة العسكرية باشرت فيه.  
وتفيد المعلومات ان التحقيق توصل الى قناعة بأن وفاة اربعة موقوفين من السوريين لم تحصل نتيجة التعذيب وانما بفعل حالات مرضية.
ووفق اجواء القيادة العسكرية في اليرزة، ليس لدى الجيش ما يخفيه او يخاف منه، وإذا تبين بموجب التحقيق ان عناصر ارتكبوا اخطاء فردية في التصرف اثناء تنفيذ العملية الاستباقية او خلال استجواب الموقوفين، فهم سيخضعون الى المساءلة والمحاسبة تبعا للآليات المعتمدة، ولا حرج في ذلك. 

 موقف الحريري 

ولكن، ما هي حقيقة موقف الحريري من عملية الجيش والانعكاسات التي افرزتها، وهو المحاط باعتبارين: الاول حرصه على استمرار العلاقة الجيدة مع رئيس الجمهورية ميشال عون المعروف بصلته الوثيقة في القيادة الحالية للجيش، والثاني حرصه على مراعاة خصوصية بيئته وحساسيتها لا سيما ان هناك في داخلها من ينتظره عند الكوع لاستغلال دعساته الناقصة في الحسابات الانتخابية.
يقول مصدر مقرب من الحريري لـ «الديار» ان التحقيق الشفاف في حقيقة ما جرى اثناء مداهمة مخيمات عرسال وبعدها، يشكل افضل حماية للجيش وحصانة له، لافتا الانتباه الى ان امرا مماثلا حصل قبل سنوات عندما أدى اطلاق النار من قبل عسكريين الى سقوط مدنيين في منطقة كنيسة مار مخايل، حيث تشكلت لجنة تحقيق وجرى اتخاذ عقوبات بالعناصر المخالفة وطوي الملف عند هذا الحد.
ويضيف المصدر الوثيق الصلة بالحريري: ليس مطلوبا ان تكون هناك ادانة للجيش، وانما يجب التأكد من ضبط ايقاعه وسلوكه على ايقاع القوانين والانظمة المرعية الاجراء، وبالتالي فان الحملة على الجيش، وبمعزل عن حقيقة خلفياتها وابعادها، ستتراجع حين تُسحب الذرائع منها وتظهر الحقيقة التي يجب الركون اليها، حنى لو كانت صعبة.
ويشير المصدر الى ان ظهور الحقيقة والعمل بمقتضاها بناء على تحقيق نزيه انما يحميان المؤسسة العسكرية ويعززان موقعها امام اللبنانيين والمجتمع الدولي، مشددا على ان الغاية هي تحديد التجاوزات والاخطاء التي ربما وقعت ومحاسبة المسؤولين عنها تحديدا، الامر الذي من شأنه ان يجفف ينابيع الاستغلال السياسي والاعلامي لما حدث، وان يخدم سمعة الجيش ومصداقيته ويُمتن الثقة الداخلية والخارجية فيه. 
ويدعو المصدر الى ابقاء ملاحظات الحريري على سلوك بعض عناصر الجيش اثناء تأديتهم المهمة الاخيرة، ضمن اطارها الموضعي والموضوعي، وعدم البناء عليها للوصول الى استنتاجات سياسية ليست في محلها، مؤكدا انه لولا الغطاء السياسي والسني الذي سبق ان منحه الحريري للمؤسسة العسكرية، ولا يزال، ما كان الجيش ليستطيع ان يحقق انجازات نوعية سواء في منطقة عرسال او في طرابلس سابقا.
ويشدد المصدر اللصيق بالحريري على ان خيار رئيس الحكومة حاسم في وجوب مواجهة الارهاب والتطرف والتمسك بالاعتدال والاستقرار، وهو ليس في صدد التخلي عن هذه الثابتة الوطنية، مع تشديده في الوقت ذاته على ضرورة ان يبقى أداء الجيش متقيدا بالاصول، وهذا ما سيبلغه لعون خلال اجتماعه به.
اما بالنسبة الى ملف النازحين السوريين، فان المصدر البارز في «بيت الوسط» يرى انه ما من مشكلة في ان يتولى المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم التواصل مع الجانب السوري للتنسيق في مسائل تتعلق بالنازحين، لافتا الانتباه الى ان ابراهيم يزور دمشق باستمرار في سياق مهام امنية وبالتالي لا اعتراض على قناة الاتصال هذه ما دامت امنية - تقنية، اما الترتيبات والاتفاقيات السياسية لمعالجة ملف النازحين فهي مرفوضة كليا.
ويستغرب المصدر المحيط بالحريري كيف ان حلفاء دمشق لم يطرحوا بتاتا مسألة التواصل مع النظام السوري، طوال الاشهر السابقة من عمر الحكومة الحالية، ثم إذا بهم يستفيقوا فجأة على هذا الطرح الآن، واضعا هذه الصحوة المفاجئة في اطار محاولة مساعدة النظام للامساك بورقة النازحين في لبنان.
وينبه المصدر المقرب من الحريري الى ان التفاوض المباشر مع الحكومة السورية سيعقد ملف النازحين ولا يسهل حله، لافتا الانتباه الى ان 80 بالمئة من النازحين المقيمين في لبنان هم من معارضي النظام، وليسوا مستعدين للعودة من خلاله.
ويعتبر المصدر ان الامم المتحدة هي المعنية، لاسباب موضوعية وعملانية، بالمساهمة في اعادة النازحين الى سوريا، وإذا اراد ممثلها ستيفان دوميستورا محاورة النظام في هذا الشأن فهو حر. ويضيف: على البعض ان يدرك ان لبنان لا يستطيع ان يفتح على حسابه في هذه القضية المعقدة.
ولكن المصدر يستبعد ان يؤدي الانقسام الداخلي حول مقاربة اشكالية العلاقة مع سوريا الى تفجير الحكومة التي سبق لها ان مرت في اختبارات وتحديات لا تقل صعوبة، الا انها تمكنت من عبورها بسلام.

 مناعة الجيش  

وهل من انعكاس محتمل للحملة التي تعرض لها الجيش خلال الايام الماضية، على استراتيجيته المعتمدة في محاربة الارهاب وملاحقة مجموعاته المتغلغلة في بعض مخيمات النازحين السوريين؟
يبدو ان هذه الحملة تركت مفعولا عكسيا لدى قيادة الجيش التي استشعرت وجود نيات خبيثة خلف بعض الاصوات الاعتراضية، ما زادها اصرارا على المضي في الحرب الوقائية، المصحوبة بالضوابط الضرورية. وقد سُجل في الساعات الماضية حصول اكثر من مداهمة عسكرية لأهداف مشبوهة، في دلالة على تمسك الجيش بالمسار الذي يسلكه.
 وربما ليس أدل على نية الجيش مواصلة معركته ضد الارهاب، من بيت الشعر الذي ردده احد كبار الضباط امام سامعيه: «أفي كل يوم تحت ضِبني شويعر.. ضعيف يقاويني قصير يطاول».
وتؤكد مصادر عسكرية لـ «الديار» ان الجيش لم يتأثر بكل الضغط المعنوي الذي تعرض له، وهو مصمم على الاستمرار في مداهمة اي مخيم للنازحين السوريين، متى وجد ان هناك خطرا ينبغي التصدي له، لحماية لبنان واستقراره الداخلي.
وتستغرب المصادر ان يتجاهل المتحاملون على الجيش واقعة وجود اربعة انتحاريين مزنرين بأحزمة ناسفة وتفجير انفسهم بين العسكريين والمدنيين، اضافة الى ضبط كمية من الاسلحة والمتفجرات، متسائلة عن كيفية القفز فوق هذه الوقائع في معرض مراجعة مسار العملية العسكرية التي نفذها الجيش في عدد من مخيمات منطقة عرسال.
وتجزم المصادر بان احدا لا يستطيع بصراخه ان يقيد الجيش الذي لم يعر اهتماما في الاصل لاصوات التحريض، مشيرة الى ان هناك قرارا حازما لدى العماد عون والقيادة بعدم السماح لأي كان، ومهما كانت الظروف، بتحويل مخيمات النازحين الى بيئة حاضنة لمجموعات ارهابية، والجيش سيداهم كل بقعة مشبوهة في تلك المخيمات او في اي مكان من لبنان.