ومع اكتفاء وزير الطاقة سيزار أبي خليل بالإجابة بـ«ألله يوفّقن»، ردّاً على سؤال حول موقف «القوات اللبنانية» من ملفّ البواخر، فهمَ الجميع أن لا نيّة لدى «التيار الوطني الحر» بالتصعيد السياسي والإعلامي، أو بما معناه «إطفاء الموتورات»، وهو ما دفعَ بـ«القوات» الى «إطفاء موتوراتها» أيضاً، وقد لا يكون ردّ ابي خليل هو السبب الوحيد لدخول الهدنة حيّز التنفيذ، ذلك أنّ ثمّة اسباباً اخرى ابرزُها على الاطلاق إحالة ملف البواخر «مصحّحاً» الى دائرة المناقصات، مع ما يعني ذلك انتظار النتائج التي ستصدر.
وما يؤكد أنّ المرحلة الحالية هي مرحلة هدنة لا أكثر، هو تراجُع التواصل ما بين «التيار» و«القوات» الى الحدّ الأدنى.
وخلال المرحلة الماضية، دارت مواجهات عنيفة بين الطرفين ظهَر منها القليل الى العلن وتركّزت حول ثلاثة ملفّات:
الملف الأوّل، يتعلق بقانون الانتخابات وطريقة إدارته، والذي أدّى الى تفاقمِ النزاع بين الرئيس نبيه بري والوزير جبران باسيل، في مقابل تقاربٍ بين بري و«القوات»، ولكنّ هذا النزاع انتهى مع إقرار القانون الانتخابي الجديد.
والملفّ الثاني، هو المتعلق ببواخر الكهرباء والذي سُجّل خلاله تناغُم الى حد التنسيق بين برّي و«القوات»، والذي انتهى الى إحالة الملف الى هيئة المناقصات.
أمّا الملف الثالث فهو المتعلق بالتعيينات، والذي لا يزال مفتوحاً، وهو ما يؤشّر الى معارك جديدة عندما سيَجري وضعُه على طاولة مجلس الوزراء.
وفيما كان جعجع يشتكي من الخلفية الاستفزازية لباسيل خلال طرحِ ملفّ قانون الانتخابات، محاولاً الفصلَ بين رئيس «التيار الوطني الحر» ورئيس الجمهورية، كان باسيل يشتكي من ازدواجية مواقف جعجع وعدم الالتزام الصلب بالسقف الموضوع لتحصيل اكبر قدر من المكاسب.
حتى الآن، بدا أنّ باسيل خسرَ بعض النقاط، وقد يكون يفكّر في التعويض في ملف التعيينات، في الفترة الفاصلة عن موعد الانتخابات النيابية. ففي معركة قانون الانتخابات زاد التباعد بين باسيل والنائب وليد جنبلاط، ولكن الأهمّ وربّما الاكثر خطورةً هو هذا الدخان الكثيف الذي بدأ يتجمّع ويحجب الرؤيا بين باسيل والساحة الشيعية، ولو من خلال النزاع مع برّي، في مقابل تسلّل الدكتور سمير جعجع لملءِ الفراغ الناتج عن تراجع باسيل من خلال بوابة عين التينة.
ففيما كان بري مقتنعاً بأنّ باسيل يَدفع في اتجاه الفراغ على مستوى المجلس النيابي بهدفِ وضعِ برّي خارج رئاسة المجلس، كان جعجع يعلن رفضَه الفراغ بما يعني ضمناً تأييده لبقاء بري في رئاسة المجلس النيابي، وهو كان فعلياً يريد ان يقول إنّ لديه ضوابطَ في اللعبة السياسية وإنّه ليس متهوّراً في خياراته كما يفعل غيره.
باسيل وجعجع يدركان جيّداً أنّ الاستحقاق الانتخابي هو البوابة العريضة لولوج الاستحقاق الرئاسي لاحقاً، وأنّ التوازنات المطلوبة لدخول قصر بعبدا تتضمّن العامل الشيعي كرقمٍ صعب.
لذلك ربّما تابعَ جعجع تقدّمه في اتجاه الساحة الشيعية ولكن موجّهاً رسالةً إيجابية قوية الى «حزب الله»، فبخِلاف خطابه السابق اعتبَر الآن أنه «لا نستطيع ان نرمي اللوم على «حزب الله» في كلّ المسائل»، بينما في السابق كان الخطاب السياسي يتمحور حول أنّ السلاح الموجود مع «حزب الله» هو ركيزة الويلات التي تضرب لبنان.
وبدا أنّ جعجع يحاول تحسينَ صورته شيعياً بعدما لمسَ تضرّرَ صورة باسيل في الوسط الشيعي. وقد يكون باسيل في صَدد وضعِ خطة تحرّك جديدة للتعويض عن النقاط التي خسرَها. وهو ربّما لمسَ أنّ الضرر السياسي الذي لحقَ به، إضافةً الى الضرر على مستوى الرأي العام تقع المسؤولية في جزء اساسي منه على الفشل في التركيبة التي اعتمِدت بعد وصول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا.
فعلى المستوى الإعلامي، غاب خطاب «التيار الوطني الحر» كلّياً عن الصورة، لدرجة أنّه لم يكن له رواية مضادّة أو حتى حضور بالحدّ الأدنى، فيما كان خصومه يسرحون ويمرحون بالطول والعرض.
كذلك على مستوى التركيبة السياسية التي بدت غائبة كلّياً، ما أجبَر باسيل على الدخول المباشر، ولكنّه بقيَ صوتاً وحيداً وسط غابة من الصراعات، خصوصاً مع ملفّات بالغة الحساسية وتتطلّب تحضيرَ الرأي العام، كملف البواخر.
باختصار، بدا أنّ التركيبة الجديدة تغلبُ عليها الحسابات الخاصة والمصلحة الضيّقة، والسعي إلى جنيِ المكاسب الشخصية بدلاً من النضال والكفاءة، وهو ربّما ما استنتجَه باسيل بعد تقويمه لكامل المرحلة الماضية.
وقريباً سيتمّ فتحُ ملفّ التعيينات إضافةً الى إقرار مشاريع تُعتبر حيوية، خصوصاً للمناطق المسيحية، وسيعتمد باسيل على هذين الملفّين للتحضير جيّداً للمعركة الانتخابية المصيرية بالنسبة إليه.
وسيواجهه خصومه بالفساد والمحسوبيات، فيما الرأي العام بات اكثرَ تقبّلاً لهذا الخطاب، ما يَعني أنّ مرحلة الهدنة أو استراحة العسكر قد لا تطول كثيراً، في وقتٍ بدأ التحضير للاستحقاق النيابي.
صحيح أنّ الانتخابات الفرعية ستكون محكَّ اختبار مبكِر لـ«التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل»، لكنّ أوراق القوّة الفعلية لن تُستعمل، خصوصاً من قبَل خصوم الفريقين.
فالمنازلة الكبرى ستكون في أيار المقبل. وخلال الأسابيع الماضية جرى توجيه الرسائل المبطّنة، خصوصاً من جانبي «القوات اللبنانية» وتيار «المردة»، فهما أرسَلا رسالةً الى باسيل كلٌّ من موقعه، بأنّ اللعبة مفتوحة ولم تعُد مقفَلة ووفق خيارات وحسابات ملزمة بسقفٍ لا يمكن تجاوزُه.
أهمّية الرسالة أنّها أتَت من دائرة الشمال التي سيترشّح فيها جبران باسيل الى جانب النائب ستريدا جعجع وطوني فرنجية.
ورغم أهمّية الرسالة، إلّا أنّ هنالك من يعتقد أنّها غير قابلة للترجمة. فجعجع الذي استفاد من إنهاء حالة التقاتل مع «التيار الوطني الحر» ليكرّسَ شرعية حضورِه على كلّ الساحة المسيحية ووفق منطق الثنائية المسيحية، يُحاذر أن يسمح لغيره بسلوك الدربِ نفسه والذهابِ الى ثلاثية، فيما هو يطمح لاحقاً للوصول الى أحادية التمثيلِ المسيحي.
وجعجع الذي يتعاطى مع فرنجية كحالةٍ مناطقية يُحاذر الإفراط في إيجابياته ولو من خلال هدفِ تهديد باسيل في عقر داره الشمالي.
لذلك قد تبقى إيجابيات التقاطع ما بين «القوات» و«المردة» في الإطار الحالي، مع ترجيح كثرٍ بأنّ الحسابات المنطقية تَستبعد تحالفاً انتخابياً فعلياً بين جعجع وفرنجية في الشمال، ولو أنّ التقارب سيبقى موجوداً خلال هذه المرحلة، ولكن بهدف توجيه رسائل الضغط لا أكثر.
وربّما قد لا تبدأ الصورة الانتخابية بالظهور جدّياً بداية العام المقبل، مع الإشارة الى عامل جديد طرَأ على الرأي العام اللبناني عموماً والمسيحي خصوصاً.
فالبرودة التي تجتاح الأوساط الشعبية مع أحزابها وقواها السياسية قابَلتها حرارةٌ لشرائح أخرى مع قوى مجهولة غير سياسية مِثل المجتمع المدني وغيره.
ما يوحي بأنّ الناس يريدون تغييراً ما، وأن تشكّلَ الانتخابات النيابية حدّاً فاصلاً ما بين العهد القديم والعهد الجديد، أي أن تفرز المرحلة المقبلة وجوهاً جديدة على حساب الطاقم التقليدي الموجود.
وهذه النظرية يجري تردادُها في الأروقة السياسية، وعبّر عنها جنبلاط على طريقته عندما قال: هنالك تغيير كبير في الشارع، ونحن نعاني اليوم فشلاً، القانون الجديد يعطي الفرصة لوصول جيلٍ جديد وشبابٍ لديه طموحات.