السجال اللبناني السوري حول عملية الجيش الاخيرة في عرسال وما تلاها من فضيحة مقتل اربعة معتقلين سوريين، أثبت أن أحداً لم يتعلم الدرس ولم يكتسب الخبرة في مواجهة مثل هذه الوقائع التي تتكرر بين الحين والآخر وتفجر مختلف أنواع الغرائز والاحقاد والعصبيات..وتصرف الانظار عن النقاش الحقيقي الواجب بين البلدين والشعبين، بمعزل عن النظامين، وهما واحدٌ، والجيشين، وهما في خندق مشترك أيضا.
لا غبار على عملية الجيش الاخيرة في مخيم النزوح في عرسال، ولا مجال للتسامح بأي حال من الاحوال مع حقيقة ان إنتحاريين فجروا أنفسهم بالقوة العسكرية المداهمة وأصابوا عدداً من أفرادها وقتلوا وجرحوا بعض النازحين أيضا. وهذا المنطق ينسحب على اللبنانيين كما على السوريين الذين سبق لتساهلهم مع تلك الظاهرة أن ذهب بقضيتهم الى ما لا تحمد عقباه، بغض النظر عن الخلاف حول موعد ظهور الانتحاري السوري الاول.
لكن غباراً سميكاً يلف فضيحة مقتل المعتقلين السوريين الاربعة. هي مسؤولية الجيش التي تضاعفت عندما جرت محاولات التفسير والتبرير ثم التعتيم، قبل أن يصدر قرار فتح تحقيق رسمي، من خارج المؤسسة العسكرية، وربما من دونها أيضاً. وهو قرار لم يهدىء النفوس، ولم يوقف السجال، لسبب بسيط لا يمكن لأحد إنكاره، وهو ان المعني بالقرار ليس النروج ولا أي بلد إسكندنافي آخر، بل لبنان الذي يفتقر الى أبسط مقومات الدولة وأدناها ولا يمكن لمؤسساتها المدنية والعسكرية والامنية أن تحكم بالعدل والعقل ، ولا حتى بالسياسة، المقيمة الان على شرخ عميق في التعامل مع الشأن السوري، بكامل تفاصيله لاسيما قضية النزوح.
فكرة التعاطف الاخلاقي والانساني مع الجيش أو مع النازحين، واجب وضرورة، لكنها تغفل ان الجانبين وضعا عنوة في مواجهة صعبة لا يمكن لأحد منهما أن ينتصر فيها، ولا يجوز التردد في أي مسعى ممكن لتفاديها والتقليل من خسائرها، ولنقلها الى المستويات السياسية، مهما كانت تلك المستويات مفككة ومنقسمة ومستنفرة على بعضها البعض.. والانطلاق من حقيقة ان الادانة لما فعله الجيش لم تكن راجحة، والعطف على النازحين مؤثراً . كلام النخب لا يحسب له حساب ، خاصة إذا كان فردياً، ويتركز على مواقع التواصل الاجتماعي، المباحة لشتى أشكال الردح، ولا يستقطب أي جمعٍ لبنانيٍ او سوريٍ، يمكنه الذهاب بالمسألة الى حدودها القصوى.
إنسداد الافق السوري،المعارض تحديداً، لا يختلف كثيرا عن إنغلاق الأفق اللبناني. وليس من قبيل الصدفة ان يبدو أداء المعارضة السورية شبيهاً بأداء الحكومة اللبنانية، وقريباً من أداء النظام السوري الذي لم ينتقد التعرض لمواطنيه، النازحين تحديداً، ولم يطلق حتى النداء بعودتهم الى حضن الوطن. ومثلما كانت المواجهة في عرسال فاضحة لهيئات المعارضة السورية، كانت محرجة أيضاً لمجلس الوزراء اللبناني الذي يتمتع فيه الاسد بغالبية واضحة، كانت وما تزال قادرة على تعطيل أي توجه نحو الحياد إزاء القضية السورية.
مثل هذه الغالبية هي بلا أي جدال إنعكاس لحساسية مسيحية وشيعية، لا ترفض فقط أي تشكيك في شرعية نظام الاسد، بل هي تنادي كل يوم باستئناف العلاقات الرسمية معه، على جميع المستويات، وتطوير التعاون العسكري والامني الذي لم ينقطع يوماً، تحت شعار البحث في عودة النازحين، برغم معرفتها المسبقة ان النظام السوري لا يريد هذه العودة حاليا، ولا يرغب في تحمل هذا العبء، وبرغم إدراكها ان الامر يقع على عاتق الدول الكبرى وعلى المنظمات والهيئات الدولية التي تغيث النازحين وتحول دون إنفجار قضيتهم في لبنان.
مرة أخرى، لا بد ان يخرج السجال من حدوده الراهنة. الالتزام بالمعايير والمواقف الاخلاقية والانسانية مفيد للثقافة لا في السياسة. لبنان ليس دولة بالمعنى الفعلي بل معسكر لجوء دائم، وتهجير متكرر. والخريطة اللبنانية هي في الجوهر عبارة عن مقرات ومخيمات هجرة، تغيرت وتبادلت وتفاوتت مواعيد أقامتها على مدى عقود وقرون ماضية. والنزوح السوري ليس الاول ولن يكون الاخير في تاريخ لبنان، وكذا الاضطراب في العلاقة بين المخيمات القديمة والمخيمات الراهنة. المهم الا يتحول ذلك الاضطراب الى إشتباك مفتوح يمس الجيش اللبناني بصفته مكلفاً بحراسة جميع المخيمات من دون إستثناء، ويستباح فيه سكان مخيم ما ، الى حد يدفعهم الى حمل السلاح وتفجير العبوات.
ولا يجوز أيضا، ان يظل السجال عالقاً عند تورط حزب الله في سوريا. فالغالبية اللبنانية الساحقة لا تريد إنهاء هذا التورط فعليا، بل هي تراه تعبيراً طبيعياً جداً عن العلاقة التاريخية بين النظام السوري وبين اللبنانيين الشيعة.. بل ربما تعتبره رأفة بلبنان، او ربما عقاباً لبعض أبنائه غير المقتنعين بحدود مخيمهم اللبناني الصغير.