في عملية «إعادة التأسيس»، التي يتقدّم نحوها لبنان تسلّلاً، لا يمكن تجاهل ملف النازحين السوريين والفلسطينيين الذين تبلغ نسبتهم أكثر من نصف تعداد الشعب اللبناني. (2.5 مليون مقابل 4.5 ملايين). فهل سينعقد المؤتمر التأسيسي، أيّاً كانت أشكاله وتسمياته، فيما يضغط ملف النازحين بثقله على الطاولة أم سيتمّ ابتكارُ المخارج للملف قبل ذلك؟كل شيء يجري وفق روزنامة واضحة ودقيقة. وبالنسبة إلى المطلعين والمحللين الجديين، لم يكن تحريك ملف النازحين السوريين مفاجِئاً، بل توقعوه في أيّ لحظة منذ بداية عهد الرئيس ميشال عون، لأنّ قوى عدة متصارِعة تلتقي على ذلك، ولكن من منطلقات مختلفة ولأهداف متناقضة.
ليس منطقياً أن يدخل ذوو السلطة في حوارهم الطويل حول الملفات التي تحدّد مستقبلَ لبنان، ولا يتصدّوا لأبرزها وأخطرها على الإطلاق، ملف النازحين السوريين والفلسطينيين. فاللامركزية الإدارية ومجلس الشيوخ والطائفية السياسية وقانون الانتخاب، وحتى النفط والغاز والكهرباء والصفقات الأخرى، تبدو كلها تافهة أمام ملف النازحين. إنه مصيريٌّ فعلاً.
كان لقاء بعبدا سريعاً نسبياً، وتضمّن نقاشاً في الأساسيات، وأقرّ الوثيقة التي كان قد أعدّها الرئيس ميشال عون، بعد تعديلات أضعفتها إلى حدّ ما. وقيل إنّ اللقاء لن يكون جزءاً من سلسلة حوارية، لكنّ ذلك ليس صحيحاً على الأرجح. فلا بدّ من جولات حوارية متلاحقة في فترة التمديد النيابي الثالث الممتدة حتى أيار 2018، والتي قد يتبعها تمديد رابع إذا تعذّر التوافق على الملفات الحسّاسة والصفقات.
في لحظة ما، لن يبقى النقاشُ محصوراً بالملفات المحض داخلية، بل سيتجاوزها إلى الملفات المرتبطة بأزمات المنطقة: «داعش» والإرهاب، إنخراط «حزب الله» في الحرب السورية، القرارات الدولية وسلاح «الحزب» وقرار الحرب والسلم مع إسرائيل، أزمة النازحين السوريين، أزمة النازحين الفلسطينيين.
واقعياً، هذه الملفات التي لم يعُد أهلُ السلطة يضعونها في الأولويات، ضمن صفقة التوافق مع «حزب الله»، هي الملفات التي يجدر حسمها في الدرجة الأولى، وقبل أيّ ملف آخر.
مثلاً، ما الجدوى من البحث في قوانين الانتخاب وإلغاء الطائفية عندما يكون النفوذ في لبنان محصوراً بقوى دون أخرى؟ وأيّ خطط إعمارية وتنموية يمكن رسمها عندما يكون لبنان معرّضاً في كل لحظة لتكرار ضربة إسرائيل في تموز 2006؟ وما أهمية النقاش في اللامركزية والجنسية فيما تجتاح الديموغرافيا السورية والفلسطينية لبنان؟
إذا كان هناك سعي لتأسيس لبنان على ثوابت جديدة، فالأحرى أن يتمّ التصدّي للملفات السياسية والأمنية والديموغرافية الساخنة المرتبطة بأزمات المنطقة، قبل معالجة الملفات التفصيلية المتعلقة بالنظام السياسي وعمل المؤسسات، أو في موازاتها على الأقل.
ومن هنا، كان حتمياً فتح ملف النازحين السوريين لأنه الأشدّ خطراً، فيما سيُفتَح ملف النازحين الفلسطينيين توازياً مع التسويات المنتظرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، حيث هناك مخاوف حقيقية من استغلال إسرائيل انشغال العرب بحروبهم لفرض خيارات تؤدّي إلى تصفية القضية الفلسطينية.
المطلعون يقولون إنّ المبادرة إلى تحريك ملف النازحين السوريين في لبنان تحظى بدعم دولي، كما سائر المبادرات المطروحة حالياً في لبنان. والهدف هو إطفاء نار الملف لئلّا يؤدّي إلى اهتزاز الاستقرار اللبناني، الأمني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديموغرافي.
وليس مصادفة تحريك ملف النازحين في موازاة إنشاء مناطق «خفض التوتر» في سوريا. فنجاح الخطة هناك يسهّل نجاح الخطة هنا. وهكذا يبدو
تحريك ملف النازحين في لبنان، تزامناً، يحمل بُعداً إقليمياً، كما أنّ تحريك ملف القضاء على «داعش» في لبنان يحمل أيضاً بُعداً إقليمياً.
لكنّ كل فئة في لبنان تريد من ملف النازحين ما يلائم مصالحَها: المسيحيون يعيشون هاجس التوطين المقنّع واختلال الديموغرافيا، القوى السنّية عموماً تريد التوفيق بين المصالح اللبنانية ومعايير التضامن المذهبي، وأما القوى الشيعية عموماً فتريد استثمار الملف لفتح الباب للأسد مجدداً في لبنان.
ولطالما تعاطت البيئة السنّية اللبنانية بتعاطف مع النازحين، فيما البيئة الشيعية بقيت حذِرة.
وفي فترة لاحقة، عمد «حزب الله» إلى تقليص حضور السوريين في مناطقه بنحو ملحوظ. ولطالما سأل البعض: إذاً، لماذا أفسح «حزب الله» المجال لتدفّق النازحين عبر الحدود، إذا كان لا يرتاح لوجودهم؟
في بعض الجوانب، أراد «الحزب» الاحتفاظ بورقة النازحين لتسهيل إعادة الروابط مع نظام الرئيس بشار الأسد. وقد جاء اقتراع السوريين للأسد في السفارة السورية في لبنان ليُظهِر أنّ استيعاب السوريين تحت راية الأسد ما زال أمراً سهل التحقيق.
وهكذا، ستتنازع الاتجاهات كلها في مجلس الوزراء، فأيّ اتجاهٍ سينتصر؟
الأمر لا يتحمّل كثيراً من التوقعات. فهناك تفاهم ضمني على معالجة الملف بالحدّ الأدنى من التجاذبات، بحيث يتخلّى كل طرف عن بعض شروطه. وبين قوى 14 آذار الداعية إلى تكليف الأمم المتحدة الوساطة وقوى 8 آذار القائلة بالاتصال السياسي المباشر مع حكومة دمشق، ربما يراعى دور تنفيذي معيَّن للأمم المتحدة في رعاية الملف، لماء الوجه، لكنّ القرار السياسي يُصنع بين الحكومتين اللبنانية والسورية.
الأمر محسوم منذ أشهر، بمباركة الرئيس ميشال عون وسعي «التيار الوطني الحرّ». والتبرير هو: إذا كان لبنان يتواصل مع إسرائيل ضمن لجان عسكرية لمعالجة الطوارئ، ويتوسط قوى إقليمية لها اتصال مع الإرهابيين، فهل من المنطقي أن يقاطع الأسد؟
ملف النازحين بدأ يتحرّك عملياً لأنّ هناك قراراً كبيراً بالمباشرة في إنجاز التسويات اللازمة في سوريا وسائر كيانات الشرق الأوسط التي ستكون قيد التشكّل من جديد بعد انتهاء الحروب. وإذا كان لبنان يريد إثباتَ قدرته على العيش، فعلى قواه السياسية أن تثبت قدرتَها على تحقيق إنجازات في الملفات الكيانية، ومنها ملف النازحين.
فلا يكتفي الشيعة من الملف باستخدامه ورقة لـ«إعادة لبنان إلى حضن الأسد والمحور الإيراني، ولا يكتفي السنّة بطلب المساعدات الدولية، ولا يكتفي المسيحيون بـ«النقّ»!
وفيما المطلوب دولياً إنجاز خطوات في الملف، هناك شبهات حقيقية حول رغبات توطينية أظهرها البعض خلال الفترة السابقة. والانقسام اللبناني يثير المخاوف من تكريس أزمة اللاجئين وتفاقم مخاطرها على حساب لبنان.