لقد أنهى بري على مدار أكثر من أربعة أشهر عراكاً سياسياً حاميَ الوطيس مع الوزير جبران باسيل والعهد، ويعتقد بثقة الآن أنّه خرج منه منتصراً، أو أنّه أحبَط مسعى العهد لليِّ ذراعه عبر إحداثِ فراغ، ولو ليوم واحد، في موقعه في مجلس النواب.
وأنه أيضاً خرج مرتاحاً من اختبار شغَل باله لفترة، ويتصل بمعرفة عمقِ موقف «حزب الله» منه حينما يشتبك في الجوهر مع حليف الحزب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
نصرٌ تبَلّغه عبر نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم: «أنت أوّل الخطوط الحمر وآخرُها. كذلك خرج من خلاصة اشتباكه مع باسيل أكثرَ ثقةً بنفسه لجهة استعادة ثقته باقتداره السياسي الداخلي.
وفي انتظار عودته من رحلة استجمامه، يظلّ في زوايا قصر عين التينة، أصداء وذكريات عن أيّام حسّاسة شهدت وقائعَ القصّة السرّية لنجاح بري بتجاوزِ باسيل خلال سباقِهما لنيل قصب النصر أثناء التفاوض على قانون الانتخاب.
والواقع أنّ فكرةَ هذه المناورة للالتفاف على باسيل وإنضاج قانون انتخاب لا يكون الأخير هو عرّابه ويتضمّن نسبية كاملة، ولِدت بنحو مشترَك بين بري والنائب وليد جنبلاط، وسايرَها «حزب الله» إلى حدّ بعيد من وراء الستار.
وحدَّد الشريكان بري وجنبلاط أنّ يكون الورقة الذهبية في مناوراتهما هذه، النائب جورج عدوان الذي يعرفه بري زميلاً في مجلس النواب، وجنبلاط إبناً للشوف، وذلك بصفته شخصيةً ذات كاريزما محبَّبة وغير مستفزّة وصفات أُخرى كثيرة تُحسَب لمصلحته.
قصّة هذه المناورة بدأت عندما عاد وفد «حزب الله» الرفيع المستوى من زيارته الشهيرة لقصر بعبدا، والتي أخفَقت في لحظِ فارقٍ كان الحزب يراهن عليه في الموقف من قانون الانتخاب بين عون وجبران باسيل.
وأكثر من ذلك عاد الوفد من بعبدا وهو على اقتناع بأنّ باسيل يقود عربة معركة العهد في شأن قانون الانتخاب. ومن فوره قصَد وفد «حزب الله» أو بعضُ أعضائه عين التينة والتقى بري، ونَقلوا إليه صورةَ الجوّ غير الوردي، بل الكئيب، الذي عادوا به من بعبدا.
وعرضوا عليه جعبتَهم للحلّ والتي تتألف من سبع صيغ لقوانين انتخابية على أساس النسبية (وليس ستة كما شاع حينها)، وطلبوا منه أن يناور ممثّله الوزير علي حسن خليل بها في مفاوضات اللجنة الرباعية بين حركة «أمل» وتيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» و«حزب الله»، علَّ ذلك يؤدّي إلى تثبيت التوافق على أحدها.
لكنّ بري طلب من وفد الحزب، أن يتمّ فقط طرح صيغ القوانين الستة، وإبقاء صيغة القانون السابع طيّ الكتمان وعدم طرحه في مفاوضات اللجنة الرباعية أو أيّ مفاوضات تجري مع القوى السياسية الأخرى في خصوص قانون الانتخاب العتيد. والواقع أنّ صيغة قانون الانتخاب السابع الذي طلب بري إبعاده عن التداول هو قانون الـ 15 دائرة الذي أُقِرّ في نهاية مطاف رحلة البحث عن قانون الانتخاب الجديد.
أراد بري بالتشارك مع جنبلاط أن يُظهر أنّ فريقاً آخر طرَح قانون الدوائر الـ 15 وليس الثنائية الشيعية أو حتى الطرف السنّي، بل أن تُحبَكَ الأمور على نحو يُظهِر أنّ عرّابه وطارِحَه هو طرفٌ من داخل الثنائية المسيحية، وبذلك يَخرج هذا القانون المقترَح من دائرة «المشاكسة الشيعية ـ الباسيلية»، ويكسَب بالتالي حظاً أكبر في جعلِ باسيل أكثر حرَجاً في رفضِه، ويوفّر هامشاً لعون لكي يتلقّفه بدعوى أنّه يمثّل فرصة التسوية التي تَحول دون الاصطدام بحائط انتهاء الفترة الدستورية، وأيضاً بصفته «قانون الخلاص المسيحي»، كونه صُنِعَ في بكركي، بحسب باحثين عن آبائه الذين باتوا كثُراً بعد إقراره. والورقة الذهبية التي توسّلها بري لإنجاح مناورة إسقاط قانون النسبية ذي الدوائر 15 على باسيل وعون، وذلك بواسطة مظلّة مسيحية وعن طريق مظلّي من داخل الثنائية المسيحية هو النائب جورج عدوان.
في قانون الـ15 دائرة كان ضَمن بري مع «حزب الله»، قبيل بدء مناورته، أن يتم فصل الزهراني عن جزين، على أن تتمّ إضافة الاولى لدائرة صور، وهذان القضاءان هما ملعب بري الشعبي الاساس في الجنوب، ويساوي هذا التصميم لدائرة جمع الزهراني وصور معاً بالنسبة إلى بري جمع قضاءَي الشوف وعاليه في دائرة واحدة بالنسبة إلى جنبلاط. وفي مقابل ذلك جمع الحزب النبطية ومرجعيون وبنت جبيل في دائرة واحدة، وهذه الأقضية الثلاثة تمثّل ثقلَ الحزب الاجتماعي في الجنوب.
بمعنى آخر فإنّ رسم توزيعة مقاعد الجنوب على هذه الشاكلة يُعبّر عن رسم خطوط نفوذ الحليفين الشيعيَين في خريطة التوزّع الاجتماعي الانتخابي في الجنوب، وتركت صيدا لتنضمّ إلى جزّين لتُخاض ضمنها معركة انتخابية فيها عامل أسامة سعد بالنسبة الى بري و«حزب الله» خصوصاً، وفيها عامل النائب بهية الحريري بالنسبة إلى باسيل، وفيها أيضاً إشكالية طالما «غصَّ» بري بها، وهي على صلة بنظرته إلى جزين التي ظلّت لعقود تُعتَبَر دُرّةَ قاعدته الانتخابية الجنوبية، إضافةً إلى بلدات عين ابل ويارون ورميش (قضاء بنت جبيل) التي يقطنها مسيحيون يطلق الجنوبيون الشيعة عليهم تسمية «مدلّلي بري» الذي أبدى دائماً سلوكاً سخياً تجاههم.
في نظر بري أنّ الحزب أخطأ ليس في مسايرة إدخال عون إلى جزين، بل إنّ خطأه يَكمن في مسايرة خطاب باسيل الذي يريد إدارةَ وجهِ جزين من الجنوب إلى منطقة جبل لبنان، فيما الجنوب يحتاجها ضمن عقدِه الانتخابي والسياسي والديموغرافي، وذلك بهدف تثبيت تنوّعِه الطائفي.
يعترف قريبون من بري أنّه خسر معركة هوية جزين، وبات مسلّماً الآن بفِعل عمقِ مراعاة الحزب لتحالفه مع عون، انّ جزين اصبحت بوجهٍ شوفي (نسبة للشوف) في معادلتها السياسية وبقيَ من وجهها الجنوبي البعد الوجداني والمعنوي.
لكن ضمّ صيدا إلى جزين في دائرة واحدة، يشي بأنّ بري ذهبَ بعيداً بتراجعِه في معركة هوية جزين، حيث أصبحت معركتها الانتخابية الآن، عبارة عن ميزان سياسي لقياس حصّة الرئيس سعد الحريري داخل الحصة «المارونية العونية السياسية» أو حصّة الأخيرة داخل حصّة السنّية السياسية النيابية، فيما «الحزب» وحركة «أمل» سيخوضانها تحت شعار رغبة بري في إبقاء نائب مسيحي منها على صلة به، ورغبة «حزب الله» في تسجيل اختراق في صيدا لمصلحة أسامة سعد.