قد يكون من سوء حظ الجيش اللبناني أن تترافق عملية عرسال مع وفاة أربعة من الموقوفين، فلا يتوقف أحد من المدافعين عن النازحين السوريين أمام وجود أربعة انتحاريين بأحزمتهم الناسفة وأربع عبوات معدة للتفجير، وأمام الإصابات التي تعرض لها عدد من الجنود في وجوههم واحتمال تعرضهم لإصابة دائمة في عيونهم وحرمانهم من النظر.
وبين «تقديس» الجيش بالمطلق والتعامل معه على أنه فوق الشبهات وقيام حملات ترويجية دعماً له، وبين التذرع بحقوق الإنسان كلافتة جذابة تسويقية أمام الدوائر الغربية المعنية سياسية وإعلامية، لإطلاق النار على الجيش والتعامل مع المخيمات أيضاً على أنها فوق الشبهات لمجرد أنها تضم نازحين، من المفيد إعادة التذكير بأن الأمر نفسه حصل في القاع قبل عام تقريباً. حينها تحولت العمليات الانتحارية المتسلسلة في دقائق، إلى تحليلات واجتهادات سعت الى التخفيف من وطأة ما حصل وتحويل النظر عن استشهاد عدد من أبناء البلدة اللبنانيين لمصلحة الكلام عن حملة السلاح من المدنيين. وقبل ثلاثة أعوام أيضاً، حصل الأمر نفسه حين تعرض الجيش لكمائن في عرسال انتهت بخطف عسكريين لبنانيين لا يزال مصيرهم مجهولاً، وسقوط عدد من الشهداء. فيما الخشية اليوم أن يتحول الضغط في ملف النازحين بعد عملية عرسال، الى مطية يراد منها «تشريع» بعض الممارسات في المخيمات، سواء عبر طرق البناء أو من خلال وقوعاتهم الشخصية التي ردد نازحون بعد الحرائق الأخيرة أنهم فقدوها.
وقد يكون من سوء حظ الجيش أيضاً أن تأتي أحداث عرسال بعد الزيارة التي قام بها تلامذة المدرسة الحربية لمعلم سياحي تابع لحزب الله، علماً بأن الزيارة نفسها سبق أن جرت خلال السنوات الماضية، ما زاد من حدة مواقف خصوم الحزب، من دون تغطية سياسية كبيرة، منتقدين المؤسسة العسكرية بقيادتها الجديدة، التي يفترض أن تكون في طور تقويم الأخطاء إذا حصلت، وهي تخوض أولى استحقاقاتها الجدية، من أجل المحافظة على الإنجازات التي تحققت، ومنها عملية عرسال.
في المقابل، قد يكون من حسن حظ الجيش أيضاً أن توقيت ما جرى أتى في لحظة سياسية يسعى فيها رئيس الحكومة وفريقه السياسي الى التهدئة التامة، فلا يفتعل مشكلة سياسية مع الجيش، ولا يصوب ضد «ممارساته» حتى لو كانت موجّهة ضد نازحين (وليس أبناء عرسال)، كما كانت تفعل قيادات فيه، لئلا يطلق رصاص الرحمة على شراكة أساسية مع العهد الذي تُحتسب قيادة الجيش عليه بالكامل، ويحظى بتغطية سياسية كاملة. لذا تحولت المطالبة بلجنة تحقيق بوفاة الموقوفين الأربعة، مضبوطة الإيقاع، لأن جميع الأفرقاء يريدون إبقاء التطبيع القائم على حاله. وانتقل النقاش السياسي تبعاً لذلك الى موضوع الحوار مع دمشق، كمادة ينفّس فيها المختلفون اعتراضاتهم فتبقى مشروعة، من دون تماس مباشر مع الجيش وخلق ارتدادات لا تفيد أحداً في الوقت الراهن. وبما أن العلاقة مع سوريا تحتمل الكثير من التأويلات رفضاً أو تأييداً، صارت الشغل الشاغل للسياسيين وتصريحاتهم، لينشأ جدال عقيم آخر، يعرف القائمون به أن لا أفق له. ومفارقة الأيام الأخيرة أن القوى السياسية اعترفت من خلال أحداث الأيام الأخيرة وجلسة مجلس الوزراء بأن خلافاتها السياسية لا تزال على حالها، وأن ما يحكمها هو اتفاق سياسي بالحد الأدنى فقط، وأن «المواضيع الخلافية» ستترك جانباً فلا يقاربها أي طرف، كي لا تنفجر الحكومة. وعلى هذا المنوال، ستوضع قضايا أخرى جانباً، وستحل أخرى وفق أسلوب التهدئة كما أقر قانون الانتخاب في اللحظة الأخيرة، وعولج الخلاف حول الكهرباء ومن ثم الإحالة الى دائرة المناقصات، وستعالج قضايا أخرى على الطريق بالأسلوب نفسه. ورغم أن جميع الأفرقاء ملتزمون التهدئة السياسية، إلا أن العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة تبقى الأكثر تمايزاً، كونها ذللت عقبات عدة أخيراً، وساهمت في إطفاء خلافات وحرائق سياسية في أكثر من ملف. وهو يحاول من خلال تعزيز موقعه من خلال ملفات عدة تمر في مجلس الوزراء وخارجه، من دون أي إشكالات، وهو يعترض في الدوائر الضيقة ويوجه رسائل داخلية حين تدعو الحاجة معترضاً أو مستفسراً من دون ضجة إعلامية. وليس أمراً بسيطاً أن يبتعد الحريري وفريقه الخاص عن دائرة الضوء في مقاربة ملف عرسال وتداعياته، ساحباً كل توتر يمكن أن يرتد في الشارع الذي لا يزال يدين بالولاء له.
لكنّ ثمة استحقاقاً أساسياً يفترض بالقوى السياسية والعسكرية أن تأخذه في الحسبان أيضاً في إطار التزامها التهدئة، وهو أن الأخطاء غير مسموحة في الوقت الراهن الذي يعاين فيه الأميركيون تحديداً الوضع الداخلي، وخصوصاً أن المرحلة المقبلة ستشهد سفر رئيس الحكومة الى واشنطن وسفر قائد الجيش إليها أيضاً، فيما يوضع ملف العقوبات المفترضة على لبنان وحزب الله على النار الأميركية، ومعه التلويح بخفض وزارة الخارجية (لا الدفاع) مساعدتها للجيش اللبناني، علماً بأن التبرير المعطى أميركياً هو أن الخفض يشمل عدداً من الدول، لا لبنان وحده.