تذمَّر مراراً من حرارة الطقس، وهو محقّ، فالرطوبة كادت أن تخنق جمال الليل. تتسلّل رائحة البحر، فترسم صورة صيّاد من بعيد، يتأمّل الحياة ويروّض الانتظار. ببزّة سوداء وقميص أبيض، أطلّ وائل كفوري محاكياً أضواء جونية وبهجة ناس يهربون من الوقت. أثقله الحرّ، ورغم ذلك تملّك المسرح، وسيطر عليه، فرقص سعيداً على إيقاعه. كفوري ملك "مهرجانات جونية الدولية"، جمّل أضواءها وصخب ليلها الصاحي على الضحكات والأمزجة. هزّ بموّاله صمت السماء ولحظة انتصاف بدرٍ راح يلاحق الظلمات كأنّه يثبت قدرة على إنارة روحها وإن لم يبلغ بعد رتبة الاكتمال. 

التاسعة والنصف مساء، عزفت الفرقة موسيقى "بحبك أنا كتير"، فتحمّس الحضور لدخول "الكينغ". انتظروه نحو نصف ساعة على الموعد المفترض لبدء السهرة، يتجوّلون في الخارج، يلتهمون الأطعمة، يتسلّون بالشراب، ويراقبون أضواء خليج جونية وشبق البحر. بعد موّال "كيفن حبايبنا؟"، رحَّب بالجميع وأقرَّ بأنّ الحرّ لا يُحتَمل. على الفور، صرخت إحداهنّ: "شلاح"، فاستبق وصول الصرخة بالقول إنّ ذلك غير ممكن. "بيعملولي مشاكل"، علَّل السبب، وعلّق ممازحاً: "صار بدّا "ليل ورعد وبرد وريح"، مش معقول الشوب!". كفوري على المسرح رجل كاريزما، بالحضور والحنجرة والمشاعر. يضع المرء في حالات عاطفية، "يقرص" الذاكرة، "يخربط" القلب. أغنياته موضوعات تمرّ كقسوة الصور حيناً وحيناً كلفحة حنين. "بدي ياك، لا تتركني حبيبي، الدنيي بلاك، صدقني غريبة". تشاركه الحناجر معنى المناجاة والخفقان والحاجة إلى حضن.

من بعيد، يبدو صليب بازيليك حريصا مضاء لا ينام، كأنه حارس المدينة وناسها وخُطى السهارى. يدرك كفوري كيف يُرضي الجمهور. يوزّع عليه المشاعر درجات درجات. حبٌّ وحزن، ملامة وجرح، شوق وموّال يحاكي أرز الوطن. يُنوّع فيلبّي الرغبات، وإن لا تكفي سهرة واحدة لاستعادة وجدانيات الماضي وجمالية (معظم) أغنيات اليوم. ويدرك قبل كلّ شيء كيف يكون الملك. بجملة. بكلمات. بكلمة. "وإنسيني، لو بدي إرجع، من زمان رجعتلك". التصفيق في هذه اللحظة يخرق احتمال أن تنعم زواية ما في الواجهة البحرية لكازينو لبنان ومحيطه بسكينة الليالي الهادئة. تطلّع نحو الحضور وذكَّر بأنّه لم يغنِّ "بحنّ للنغم الوتر" منذ مدّة. ضحك وقلَّب الأوراق أمامه، فتعالى التصفيق وهبّت الحماسات. غنّاها بمتعة، من الأعماق، بالملامح وتفاصيل الوجه. "في حبّ بقلبي انكسر، في جرح وتارك أثر"، فتفوَّق إحساسه.

كان سيّد المكان، ممسك الزمام، الواثق بالنفس. في النهاية، خذله الحرّ. "ما بقى قادر"، قال للأصوات الممتعضة من إعلانه ختام السهرة. ساعة ونصف الساعة لن تكفي باحثاً دائماً عن المزيد. غنّى الكثير، والرغبة كانت في الأكثر. من "معقول تشتّي بآب" إلى "لو حبنا غلطة تركنا غلطانين" و"هلق تَفقتي تقوليلي". غنّى "بغنيلوا ما بيسمعني" و"ما وعدتك بنجوم الليل"، ومقطعاً من أجمل أغنياته "سألوني شو مغيّر فيي؟". كلّما حاول ريّ القلوب، ازدادت تعطّشاً وشغفاً. لذلك، كانت سهرة الرغبة في المزيد. سهرة اللااكتفاء والشعور بالحاجة إلى الغَرْف. وإلى "الانتقام" من حرارة الطقس ورطوبة البحر كونهما سرّعا النهاية وعجّلا الوداع.
سيدات يلوّحن ببطاقات الدخول، يستدعين النسائم من مكان ما، وثمة مَن أحضرت معها مروحة من ورق. تُعادل حرارة الصيف حرارة الأجواء، فتخيّل النتيجة. التذمُّر من سرعة انتهاء الحفل مُبرّره الحبّ. وائل كفوري لا يُحدّ بوقت. على مسرح جونية كان خارج الزمن.