يوم الخميس الماضي في 22-6-2017 انعقد بالقصر الجمهوري بلبنان «اللقاء التشاوري»، وكان مميَّزاً لعدة جهات: أنه سُمّي لقاءً تشاورياً وليس حواراً وطنياً. وكان المعتاد منذ العام 2006 وعندما تتعذر معالجة المشكلات ذات الطابع الوطني العام، أن يدعو رئيس الجمهورية القائم أو رئيس مجلس النواب - في حال فراغ منصب الرئاسة - إلى لقاء حوارٍ وطني، صار موضوعه الرئيسي وأحياناً الوحيد منذ العام 2007 - 2008 السلاح غير الشرعي لـ«حزب الله». وقد اخترع الفرقاء السياسيون المشاركون في الحوارات الوطنية عنواناً للنقاش في هذا الموضوع الخطير هو: «الاستراتيجية الدفاعية»، بمعنى البحث في إمكان حلِّ التنظيم العسكري للحزب، وضمّ عناصره وسلاحه إلى الجيش، في خطة استراتيجية لدعم الجيش واعتباره الجهة الوحيدة والمخوَّلة حماية الداخل والحدود اللبنانية مع إسرائيل، وحتى مع سوريا (عندما كانت قوى 14 آذار قوية في الحكومة والبلاد). وظل هذا الأمر رئيسياً حتى بعد الانتكاسات التي أصابت قوى 14 آذار من احتلال بيروت من جانب ميليشيا «حزب الله» عام 2008، وإلى تفكك قوى 14 آذار التدريجي بخروج جنبلاط منها (2009)، وجعجع (2013)، وغياب سعد الحريري عن لبنان عام 2011 بعد إسقاط حكومته، واستمرار الاغتيالات السياسية حتى عام 2013! وقد صار ذلك ضرورياً (أي بحث شرعية سلاح الحزب) بعد صدور قرارين دوليين مُلزِمَين للبنان: الأول عام 2004 ورقمه 1559 والذي يمنع وجود ميليشيات وقوى لبنانية وغير لبنانية على أرض لبنان، باستثناء الجيش اللبناني والقوى الأمنية الرسمية الأُخرى. وقد صرخ الحزب وقتها عالياً، وصرخ الموالون للوجود العسكري السوري على أرض لبنان. لكنهم اضطروا للصمت مؤقتاً عندما صدر القرار 1701 على أثر حرب يوليو (تموز) بين الحزب وإسرائيل عام 2006. فقد منع القرار المذكور تحت الفصل السابع وجود مسلَّحين في جنوب الليطاني على الحدود مع إسرائيل غير الجيش الرسمي والقوات الدولية التي تُساندُهُ. كان الحزب قد ضعُفَ بعد الحرب رغم إعلان «النصر الإلهي»، ثم أعاد خلال عامين بناء مراكزه وخنادقه وصواريخه في منطقة الجنوب تحت سمع القوات الدولية وبصرها، وباحتلال بيروت ولقاء الدوحة عام 2008 صار ذلك مقبولاً بأشكالٍ شتّى، إلى أن تجاوز الحزب كلَّ القرارات والخطوط الحمر رسمياً وعلى لسان رئيس الجمهورية الجديد ميشال عون، الذي صرح في مطلع العام 2017 أنّ الجيش اللبناني عاجز عن حماية حدود لبنان مع إسرائيل، ولذلك فهو لا يزال بحاجة إلى قوات الحزب! وغضب الدوليون واعترضوا وخفّضوا اللوجيستية العسكرية للقوات الدولية بلبنان بمقدار الثلث. وحثّوا رئيس الجمهورية على استعادة الحوار الوطني لبحث الاستراتيجية الدفاعية، وإعلان الإصرار على إنفاذ القرارات الدولية.
وكلُّ ذلك، والتسليم العام: أنه لا ينبغي أن تكون للحزب قوات على الحدود تقرر من خلالها إيران الحرب والسلم، وأنه ليست للحزب وظائف أمنية بالداخل اللبناني. لكنّ الحزب كان قد تحول (وليس في السنوات الخمس الأخيرة فقط) إلى عامل استراتيجي تغييري في المنطقة لصالح إيران كما أعلن رئيسه عشرات المرات. لقد حاول رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان عام 2011 وفي الشهور الأولى للثورة السورية، أن يعيد للحوار الوطني، والإجماع الوطني، فعالياتهما. فعقد حواراً وطنياً في بعبدا، انشغل بصياغة نصٍ يقبله الجميع (بمن فيهم ممثلو الحزب) يقول بالنأي بالنفس عن الأزمة في سوريا. إنما بعد أقل من عام أعلن نصر الله عن التدخل العسكري في سوريا، بعدة حُجج: مقاتلة التكفيريين لمنعهم من الدخول إلى لبنان، وحماية مزارات آل البيت بالداخل السوري، وحماية نظام الممانعة لبشار الأسد!
إنّ الذي حصل ويحصل منذ أكثر من ثلاثة أعوام أنّ كل جهات الصمود الوطنية أمام سيطرة الحزب بالداخل اللبناني قد انهارت. وأنّ الحزب فرض رئيساً للجمهورية هو حليفه العلني منذ العام 2006، وأنّ الحكومة التي تشكلت برئاسة سعد الحريري ثلثا أعضائها خاضعون للحزب، وأنّ قانون الانتخابات الجديد، القائم على النسبية، يعطي الحزب وحلفاءه ما لا يقل عن 60 في المائة من أعضاء المجلس النيابي. ولهذا كلّه فإنّ لقاء رئيس الجمهورية «التشاوري» ما شمل غير الأطراف المشاركة في الحكومة، والموضوعات التي بُحثت فيه غاب عنها: موضوع سلاح الحزب بالطبع، وموضوع: ماذا صار بالنأْي بالنفس عن الأزمة السورية. وبقي أمران: المماحكة بين باسيل (صهر الرئيس ووزير الخارجية) وبري رئيس مجلس النواب؛ في سياق مطالبة باسيل بالمزيد من الانحشار الطائفي وفصل المسيحيين عن المسلمين - أما الموضوع الآخر فهو الأزمة الاقتصادية. وكلا الأمرين كان يمكن بحثهما في مجلس الوزراء، ولا حاجة لاجتماعٍ برئاسة الرئيس، لأنّ الرئيس يترأس مجلس الوزراء أيضاً إذا حضر! فماذا كان المقصود إذن؟ المقصود القول إنّ الموضوعات المعتبرة وطنية عامة هي الآن بيد نصر الله والرئيس ولا شيء غير. وأنّ من لا يوافق على ذلك، فإنه لن يتنعم بالدعوة لهذا الاجتماع الخطير.
انعقد الاجتماع التحاوري أو التشاوري إذن، والذي لم يسفر بالطبع عن أي نتيجة يوم 22-6 وفي اليوم التالي، أي الجمعة في 23-6 ألقى نصر الله خطاباً قرر فيه عدة أمور، الأول أنّ المملكة العربية السعودية هي أصل مشكلات المنطقة، وأنّ الجمهورية الإسلامية هي أصل الحلول، وكانت ثالثة الأثافي تبشير الأمين العام للحزب اللبنانيين أنّ «مئات الألوف من مجاهديه من الأفغان والعراقيين والباكستانيين، قد صاروا جاهزين للمجيء إلى لبنان إذا اقتضى الأمر لمساعدته في تحرير أرضه، وقتال الصهاينة!».
إنّ الذين احتجوا على كلام نصر الله من اللبنانيين وهم قلة، ذكروا أنّ اللبنانيين كانوا يأملون في موسم اصطيافٍ معقول. أمّا الآن، وقد علموا أنّ نصر الله يخوفهم باستحضار ميليشيات إلى لبنان كما أحضر إلى سوريا؛ فسلاماً على السلم وعلى الدولة قبل الاصطياف وبعده!
لقد وصل الاستيلاء على العراق إلى مراحل متقدمة، ولذلك يريد الأكراد الانفصال. وقد كان الإقليميون والدوليون يعملون على تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ. لكنّ الإيرانيين يدعمهم الروس، ويسلّم لهم الأوروبيون والصينيون وبعض العرب، يطمعون الآن بالاستيلاء على كامل سوريا ما عدا الشريط الحدودي مع تركيا والذي يتنازع عليه الأتراك والأكراد، وكل ذلك باسم استعادة الدولة والنظام. ولذلك فإنّ نصر الله يريد وقتاً بعد، ويضغط لاستمرار الهدوء والخضوع في لبنان، أو يستعين حتى بميليشيات شيعية جديدة لإقناع اللبنانيين بذلك! وصدق الشاعر العربي حيث يقول: يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!