مثلما كان من الصعب تصديق لائحة المطالب السعودية الاماراتية المكتوبة بصيغة الانذار والموجهة الى قطر، وإستغرق الامر ساعات بل حتى أياماً للتأكد من أن اللائحة حقيقية وليس مجرد خدعة سياسية أو مناورة دبلوماسية او ربما قرصنة الكترونية جديدة ، ما زال من الصعب فهم تشبث الرياض وأبو ظبي بالمطالب ال13، ورفضهما التخلي عنها او تعديلها او حتى التفاوض حولها، برغم تصنيفها من قبل غالبية العواصم الكبرى في العالم بانها إستفزازية او على الاقل غير واقعية وغير قابلة للتطبيق.
لا يبدو ان هذا العناد السعودي الاماراتي ناجم عن خلل في معرفة القوانين والاعراف والتقاليد الدولية، بل عن رغبة جامحة في تجاوز هذه المعايير والتعامل معها بصفتها عارضاً يمكن أحتواؤه، وشراء مصدره، وتحويله من سبب للخسارة والحرج، الى فرصة للمقايضة والربح. لكن هذا السلوك الذي يفتقر لأي منطق سياسي، ولا يعكس الحد الادنى من الرصانة، ساهم في خسارة الرياض وأبو ظبي الكثير من الاحترام الدولي، ولم يفقد الدوحة مناعتها الدولية، لا سيما وانه يعبر في جوهره عن ثقافة سابقة لحقبة إختراع فكرة الدولة ومرحلة الارتقاء بالقبيلة والعشيرة الى مرتبة المملكة والامارة.
ثمة تقدير بان الخسائر الناجمة عن تلك الازمة الخليجية شاملة ، لكنها بالتأكيد ليست متساوية. ولعل الخسارة الاكبر، او بالاحرى الجرح الاعمق الذي أصاب قطر أكثر من سواها هو ذلك الذي إستهدف العائلات والافراد القطريين المقيمين في دول الحصار التي تعاملت معهم بطريقة لا إنسانية ولا أخلاقية، فتقطعت بهم السبل، واستبيحت روابطهم الاسرية، ومست أحوالهم المعيشية ودراستهم ومصالحهم وممتلكاتهم وحتى مواشيهم. وكانت تلك القطيعة الشعبية التي وجدت في الاعلام السعودي والاماراتي والبحريني وطبعا المصري، واحدة من أسوأ مظاهر الازمة وأعمقها أثراً.
عدا ذلك، فإن الازمة صارت قابلة للاحتواء، بعدما بات التعايش معها ممكناً، والتغلب عليها وارداً. جوهر العقوبات المفروضة على قطر ولائحة المطالب الموجهة اليها ، هو إكراه الدوحة على الانخراط في مسار سعودي إماراتي جامح بلغ حدوده القصوى التي لا يليها سوى حصد الاضرار والخسائر على مختلف الجبهات من دون إستثناء..وأهمها جبهة المواجهة مع الحركات والتيارات الاسلامية التي بات يمكنها الترويج بسهولة ان ما تجاهر به الرياض وأبو ظبي ليس له سوى ردٍ وحيدٍ، كما يمكنها التبشير بصراحة وعلانية بان القيادتين السعودية والاماراتية لم تثبتا أي كفاءة في تدبير الشأن الداخلي، ولا في إدارة السياسة الخارجية. والتقارير الدولية الصادرة حديثا والتي تتحدث عن إنهيار اقتصادي حتمي في البلدين، لن تكون سوى المؤشر على قرب موعد الحساب.
ولعل القطيعة مع قطر هي بهذا المعنى من حسن حظ القطريين لأنهم لن يكونوا شركاء في التصدع الاقتصادي وتاليا السياسي ، السعودي الاماراتي، ولن يكونوا مطالبين بتحمل أي أعباء، بل مجرد شهود مدعوين الى إبداء قدر من التعاطف والتضامن..فالوقائع والارقام الاقتصادية المتداولة من قبل المؤسسات الدولية العريقة، لا تدع مجالا للشك في أن العقد القائم بين القيادة القطرية والشعب القطري أمتن وأقوى من العقد الرابط بين القيادتين السعودية والاماراتية وشعبيهما. كما أن التوازنات الخليجية نفسها لا تتيح الاستنتاج بان ثمة غالبية خليجية كاسحة، مناهضة لقطر او حتى غاضبة منها. ثمة وسطاء ومحايدون خليجيون كثر. وثمة خائفون خليجيون من ذلك السلوك السعودي الاماراتي وأهدافه التي لا تقتصر على الشقيقة الصغرى.
لم تكن العقوبات السعودية الاماراتية على قطر كلها، قاسية او مكلفة. قد يكون أغربها القرار بوقف المساهمة العسكرية القطرية في حرب اليمن. وهو ما كان بمثابة هدية للدوحة التي لطالما اعتبرت ان دورها اليمني هو فقط بدافع التضامن مع الاشقاء السعوديين، لكنها كانت تبحث على الدوام عن مخرج من ذلك العبء الثقيل الذي تجسد بتوسع المجازر وتفشي الكوليرا، وتبتعد تدريجيا عن المشاركة في المجهود الحربي، الذي بات يقتصر على إلقاء الوجبات الساخنة من الجو، من دون أي تورط بما يدور على البر اليمني، من معارك ومناورات وتبدلات في المواقع والرموز والاسماء.
ولم تكن تلك هي الفرصة الوحيدة التي تلقتها الدوحة. فالخروج من الصراع الليبي، الذي كان سابقا للعقوبات والمطالب، بأشهر بل ربما بسنوات، بدا كأنه خلاص من مأزق، من حرب أهلية لن يكون فيها رابحٌ ولن يكون منها ناجٍ. هي مجرد رمال متحركة تغرق جميع المتحاربين وتستنزف قواهم ومقدراتهم وأرصدتهم، وتتصل بمأزق أكبر وأعمق هو المأزق المصري الذي تواجهه الرياض وأبو ظبي لوحدهما ولا تجدان سبيلا للخروج منه سوى بالمزيد من التورط، والتمويل الذي لا يضمن أي نهاية سعيدة للحكم العسكري وإدارته المدمرة للشأن الداخلي في مصر.
وكذا الامر بالنسبة الى العراق وسوريا وأزمتيهما اللتين تفاقمتا منذ ان قررت الرياض وأبو ظبي قبل عامين "إبعاد" قطر عن إدارة الصراع ، فمنحتا الدوحة فرصة للاعلان عن أنها لن تكون شريكة او حتى شاهدة على ذلك التحول الجوهري في طبيعة الازمتين وفي مآلاتهما المروعة، والذي يتعدى فكرة دعم قوى الانقلاب والثورة المضادة، بنسخها العسكرية والاسلامية، كما هو الامر في ليبيا ومصر وحتى تونس، لتصل الى مستوى المواجهة مع التوسع الايراني، والذي لا يمكن للرياض وابو ظبي ان تزعما انهما أفلحتا في الحد منه خلال الاعوام الثلاثة الماضية، لاسيما بعدما صار لإيران جيش منتشر في سوريا يتجاوز عدد أفراده الثمانين ألفاً، عدا عن جيشها المقيم في العراق والذي يتخطى هذا الرقم.. وبعدما إتخذ العداء السعودي الاماراتي لتركيا هذا الشكل السافر، الذي ينم عن جهل بطبيعة الدولة التركية وهويتها ووظيفتها الاقليمية اللاسلامية، والتي تمثل في هذه المرحلة بالذات عنصر قوة وتوازن للعرب جميعاً.
الازمة الخليجية هي مجرد صدى لتلك الازمات العربية. وهي لن تنتهي قبل ان يستقر الأمر في اليمن وليبيا ومصر وسوريا والعراق، وقبل ان يهدأ التوتر في الرياض وأبو ظبي، ويكتشف حكامهما ان كلما إشتد العزل لقطر زادت الفرص، التي كانت الدوحة ولا تزال تنشدها.