خلف الغبار الكثيف الناجم عن الازمات الكثيرة التي تشغل اللبنانيين وتستنزف طاقاتهم وأعصابهم، تنشط واحدة من أخطر السرقات «العقارية» وأكبرها كلفة على الدولة والمواطن في آن واحد.
من الشمال الى الجنوب مرورا بالبقاع ومناطق أخرى، يجري العبث بمساحات واسعة من المشاعات والاملاك العامة، تحت شعار المسح المفترض، في جريمة موصوفة تهدد بتداعيات وطنية واجتماعية، ما لم يتم قبل فوات الاوان تدارك هذه الاستباحة للارض والحقوق، من قبل مافيا منظمة، تضم بعض المساحين وعددا من المخاتير والنافذين والموظفين الرسميين في ادارات رسمية ودوائر عقارية!
والخطورة في الامر، ان هذا العبث المتمادي يشمل مئات ملايين الامتار من الاراضي، على امتداد الجغرافيا اللبنانية خارج بيروت وجبل لبنان، بل ان الوقاحة بلغت حد وضع اليد على جبال وغابات سنديان ومنحدرات ومجاري انهر، هي املاك عامة لا يحق لأحد التصرف بها، لكنها تحولت، او تكاد، بفعل سحر ساحر الى ملك خاص لاشخاص متنفذين استطاعوا عبر الرشى والعلاقات العامة تغيير طبيعة الملكية وتطويعها..
وتلك المساحات هي في العادة متنفس بيئي وانمائي، حيث يمكن للدولة الاستفادة منها لاقامة مشاريع معينة، وبالتالي فانها تشكل «احتياطا استراتيجيا» من الاراضي، لا يجوز التفريط به او السماح بمصادرته، فكيف بقوننة هذه المصادرة.
وهذا النوع من «الاعتداءات البرية» هو اسوأ وأخطر بكثير من التعدي المزمن على الاملاك البحرية التي لم تتنازل الدولة عنها حتى الآن، برغم الامر الواقع السائد منذ عشرات السنوات على طول الشاطئ اللبناني، بل ان المطروح هو ان يجري تغريم اصحاب المخالفات والزامهم بدفع الرسوم الضرورية من دون اي تعديل في الملكية الرسمية للمساحات المقتطعة، في حين ان بعض «المتمددين» الى الاملاك البرية العامة نجحوا في الاستحصال على سندات ملكية موقعة من القضاء العقاري، بعدما تمكنوا بنفوذهم المعنوي وقدراتهم المالية من اسكات اي صوت اعتراضي، ما يعني «شرعنة» سرقاتهم وتكريسها، بدل ملاحقتهم ومحاسبتهم. 
كما ان المسح المحلي الذي نُفذ  في العديد من القرى والبلدات، لتحديد الملكيات الخاصة وترسيم الحدود العقارية، أدى الى نشوب نزاعات عائلية حادة، وحصول تداخل في الاراضي والحقوق، نتيجة استنسابية المسّاحين وافتقار عملهم الى المعايير المهنية الواضحة التي حلت مكانها فنون المقايضة والمساومة، على قاعدة: من يدفع أكثر، تكون منفعته أكبر.
وتضج مناطق كثيرة في الأطراف باخبار وحكايات حول الابتزاز المالي الذي يمارسه بعض هؤلاء على المواطنين، حتى بات شائعا بان المسح المعتمد اصبح كدجاجة تبيض ذهبا، من دون ان تنجح «ديوك» القضاء والدولة، لغاية الآن، في لجم هذه الظاهرة المتفشية.
ولا مبالغة في القول ان هناك مساحين قبضوا بشكل غير شرعي مبالغ طائلة من الاهالي، تراوحت احيانا بين 20 و35 مليون دولار في البلدة الواحدة، بحيث بات يحكى عن مجموع اجمالي من «السمسرات» و«الخوات»  الجانبية يبلغ مئات ملايين الدولارات التي تسربت الى جيوب المنتفعين، في مقابل بيع «الاوهام» وإقناع الناس بتقديم تسهيلات لهم واتمام ملفاتهم في الدوائر الرسمية.
والمفارقة ان السلطة كانت قد خصصت في الاساس مبلغ 40 مليار ليرة، بموجب قانون برنامج، للشركات التي تعهدت المسح، بعدما تقرر عام 2007 اجراء مسح شامل للاراضي، الامر الذي دفع احدى الشخصيات السياسية الى القول: من الغرائب والعجائب في لبنان ان الدولة تمول من خزينتها سرقة المال العام!
ويروى، على سبيل المثال، ان هناك مغتربا في بنت جبيل طُلب منه مبلغ 30 ألف دولار لانجاز ملفه العقاري، قبل ان تنخفض النسبة الى قرابة الالف دولار فقط، بعد تدخل أحد العارفين ببواطن اللعبة واسرارها. كما ان احدى الدعاوى المرفوعة امام النيابة العامة المالية تتعلق بملايين الدولارات التي «سُحبت» من المواطنين في منطقة معينة باسم مساعدتهم.
وعلى الرغم من ان قيادتي حركة امل وحزب الله والقوى السياسية الاخرى رفعت الغطاء السياسي عن اي متواطئ وشريك في هذه السرقة الموصوفة، ومع ان وزير المال علي حسن خليل حوّل العديد من الملفات الى القضاء المختص لاجراء المقتضى بالمخالفين، ورئيس لجنة الاعلام والاتصالات النائب حسن فضل الله رفع الصوت عاليا في مواجهة «مافيا المسح»، إلا ان هذه المشكلة لم تنته ولا تزال تتفاعل على اكثر من مستوى ومنطقة.
ومؤخرا، أعاد النائب فضل الله تسليط الاضواء الكاشفة على هذه الفضيحة، سواء خلال مناقشات لجنة المال والموازنة لمشروع الموازنة او عبر الاطلالات الاعلامية، بعدما استشعر حزب الله بتفاقم عوارض الازمة وتداعياتها.
وإزاء هذا الواقع، طرح مصدر نيابي بارز التساؤلات الآتية:
- لماذا يأخذ المسّاحون مالا من الناس ما دام ان هناك موازنة رسمية مخصصة لهم؟
- لماذا لا يسلمون خرائط المسح التي ينجزونها الى البلديات، وهل السبب يكمن في محاولتهم التغطية والتمويه على مخالفاتهم؟
- لماذا لا توجد مهلة زمنية محددة لانجاز المسح، الى درجة ان بعض المسوحات مضى عليها عشر سنوات، ولم تكتمل بعد؟
-لماذا لم تتضمن مناقصة تلزيم المسح سقفا زمنيا لاتمام المهمة، الامر الذي افسح في المجال امام اصحاب المصالح للتسويف والتمييع، من دون رقيب ولا حسيب، للحصول ما أمكن من مكاسب غير مشروعة؟
- ولماذا يتأخر القضاء في وضع حد لهذه المافيا العقارية المنظمة التي تستبيح حقوق الناس والدولة على حد سواء؟
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 فضل الله: انها قضية وطنية


وقال رئيس لجنة الاعلام والاتصالات النائب حسن فضل الله لـ «الديار» ان هذه القضية وطنية بامتياز، وهي عابرة للطوائف والمذاهب والجغرافيا، وبالتالي فانها تعني جميع المناطق وتمس حقوق جميع اللبنانيين القاطنين في المناطق المعتدى عليها. ويضيف: قد تكون المشاعات باسم الدولة والبلديات على الصعيد الاداري الا ان ملكيتها الوطنية تعود الى الاجداد والآباء والابناء والاحفاد، ولا يحق لاحد ان يضع يده عليها.
ويشدد فضل الله على ان من مسؤولية اي مواطن او مختار او رئيس بلدية او نائب او وزير ان يتصدى لهذا العبث وان يبلغ القضاء عن كل اعتداء او مخالفة للقانون، وعلى القضاء بدوره ان يكون حازما وجادا في المتابعة وان يبادر ولا يكتفي بتلقي الشكاوى، ونحن ندعوه الى ان يضرب بيد من جديد وألا يتهاون مع كل متورط ايا كان انتماؤه ووضعه وموقعه وحزبه ومذهبه ولا يجوز ان يكون احد خارج المساءلة، وليبدأ القضاء من المنطقة التي يريدها.
وحول سر تحريك هذه القضية في هذا التوقيت بالذات، يوضح فضل الله ان هناك اعتبارين وراء تحريكها الآن، الاول يتعلق بمناقشة مشروع الموازنة في لجنة المال والموازنة والثاني يتصل بالمباشرة في احالة المخالفات الى القضاء العقاري اضافة الى اكتشافنا ان بعض الذين استحوذوا بقوة صرف النفوذ على مشاعات بدأوا بالحصول على سندات تملك لها.
 

 موقف القضاء


وسألت «الديار» مدعي عام التمييز القاضي سمير حمود عن موقف القضاء مما يجري، فاجاب: عند تبلغنا بأي اخبار او شكوى، نتحرك على الفور ونتخذ الاجراءات اللازمة، وبالتالي فان كل قضية من هذا النوع تأخذ مجراها الطبيعي وتخضع الى التحقيق المطلوب. 
ويضيف: علي سبيل المثال، شاهدت امس الاول تقريرا على شاشة المؤسسة اللبنانية للارسال حول وضع اليد على جبل في احدى المناطق، فاتصلت فورا بالمدعي العام المالي وطلبت منه مباشرة التحقيقات في هذه القضية.
ويؤكد حمود ان القضاء يبادر تلقائيا الى تأدية واجباته في مواجهة اي تعد على المال العام.
وفي سياق متصل، قال المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم لـ «الديار» انه يتابع ملف سرقة المشاعات والاملاك العامة والتحايل على المواطنين في مسألة المسح، لافتا الانتباه الى انه سبق له ان ادعى على العديد من المخاتير والمسّاحين، كما هدمنا بعض المخالفات وختمنا أخرى بالشمع الاحمر. ويتابع: من أحدث التدابير التي اتخذناها توقيف شخص من بلدة سحمر في البقاع الغربي لانه رفض ازالة مخالفة، وهناك قضايا اخرى ما أزال أعمل عليها.
وينفي ابراهيم وجود اي استرخاء او تقاعس في ملاحقة المخالفين، مؤكدا عدم وجود حمـايات سياسية لهم في اي مكان. 
ويوضح ابراهيم انه يتحرك فورا عندما يصله اي اخبار او يبلغه الدرك بحصول تجاوز محدد، مشددا على انه يلاحق الموضوع حتى النهاية من دون تهاون او تساهل، بمجرد ان يعرف به، ولكن هناك امور لا نعرف بها..
ويكشف ابراهيم عن انه اعطى المخالفين في بلدته الوردانية (اقليم الخروب) مهلة لازالة مخالفاتهم في المشاعات تحت طائلة ملاحقة من يمتنع عن ذلك، مضيفا: إذا كنت أتصرف بهذه الطريقة في بلدتي من دون ان اراعي حساسية الانتماء، فكيف في الاماكن الاخرى.. بالتأكيد لا مسايرة لمنتهكي حقوق الدولة والناس، وأنا أدعو اصحاب المخالفات الى ازالتها لئلا تتم ملاحقتهم ومحاسبتهم.