قفزَ التفاعل مع قضية منع سيّدة من ارتياد شاطىء أحد المنتجعات في طرابلس بلباس "البوركيني"، ليستنسخ سجالاً فكرياً ضجّت وتضج به مجتمعات أوروبية. 

بدت محاولة نقل السجال المذكور والدفع اليه عقيمة نظراً لاختلال الظروف والمعطيات، فلا المحجبات في لبنان "مقموعات"، ولا هنّ ممنوعات من ممارسة حرياتهن وقناعاتهن الشخصية بالصورة التي يُحاولُ تخريجها في المشهد. 

عودة الى صورة السيّدة الشهيرة التي أجبرتها الشرطة الفرنسية على خلع حجابها خلال استجمامها على الشاطىء، وفجّرت الحادثة حينها جدلاً هائلاً عابراً للحدود أطرّه الصدام داخل كتلة الحرية الشخصية والهوية الوطنية وجمهورية المبادىء العلمانية. 

ليس الأمر نفسه قائماً في لبنان بطبيعة الحال، ولا داعٍ للتضخيم الذي نشأ ضمن حملات على مواقع التواصل الاجتماعي في الساعات الأخيرة. 

تكفي زيارة الى شاطىء صور الشعبي، لرؤية المحجبة حجاباً تقليدياً، وتلك التي تلبس "الشادور"، الى جانب السيّدة التي ترتدي "البيكيني" يمارسن حريات مختلفة في المكان عينه، والأمر نفسه يمكن رصده أيضاً في غير شواطىء كالرملة البيضاء والميناء... وكذا في منتجعات خاصة مختلطة في الجنوب اللبناني على سبيل المثال، وفي استراحات على ضفاف الأنهر. 

 أن تنزل سيّدة بحجابها الى الشاطىء "المضموم" الى ملكية منتجع سياحي أمر قائم وليس معدوماً، وان كان ليس شائعاً ويختلف الموقف تجاه السماح به من منتجع الى آخر، وفق شروط تجد النقابة المعنية انها لا تصطدم بالقانون، ومحسوم ان تطاولاً على القانون أدّى في مرات الى منع عاملات منزليات من ارتياد مسبح هنا وهناك. 

أغلبُ الظن ان محجبات لبنان اللواتي يرتدن الشواطىء لا يعانين بأغلبهن من عقدة "البوركيني" ولا يتجهن صوب تكبير كرة الثلج الصدامية الثقافية بالمطالبة بحق ارتداء زيّ السباحة المذكور في منتجعات جونية وجبيل وشواطىء انفه وشكا والبترون... أغلبهن يحبذن أن يقصدن شواطىء مخصصة للنساء، والملتزمات يجدن في الاختلاط ما لا يناسبهن، وبعضهن يرافقن العائلة الى شواطىء مختلطة لا تمنع ارتياد الشاطىء بالحجاب. 

المقصود اننا لسنا امام أزمة "بوركيني" في المجتمع كما يحاول كثرٌ تصويرها منذ البارحة، ولن يكون مجديّاً تحويل الاختلاف النسيجي الاجتماعي اللبناني الى مادة للجدل والانقسام واستجرار العصبيّات.

مهما تعاظمت هذه الحملة، لن تقوى على تجاوز التنوع الثقافي القائم، وقد لا تكون قادرة على تجاوز حدود طرابلس، المكان الدلالي الذي وقعت فيه الحادثة، واستثمرت في السياسة وغيرها كما بدا واضحاً عن قصد أو غيره. 

لا طائل من اختراع أزمات ثقافية تتجاوز الوقائع، فحبذا لو رأينا هذا التفاعل والحميّة مستثمرين ضد مسببي التلوّث الكارثي في مياه البحر وضد مغتصبي حرية الشواطىء والمعتدين على الأملاك البحرية، من يعلم لربما كانت اتسعت حينها المساحات العامة التي تدع الحريات الشخصية متفلتة من أي قيود، ولما كانت السيّدة التي قصدت بحر طرابلس وجدت من يمنعها من السباحة بالزيّ الذي تريده، تماماً كما يحدث في شواطىء الميناء وصور والناقورة وغيرها. 

طرابلس تحديداً تحتاج ثورات من نوعٍ آخر، وتركيزاً للجهد في الحملات على محاسبة المسؤولين عن الفقر والاهمال وظهور بؤر متطرفة ويائسة تعتبر تهديداً عميقاً للتنوع الطرابلسي أكثر من حادثة حملت أكثر مما تحتمل واستدعت مقولة "يا غيرة الدين" في غير مكانها.