يتكثّف الغيم في ليلٍ شديد الظلمات، فتختزل فيروز بحضورها البدر، امرأة تتجاوز الثمانين، تُخمّرها تجربة العُمر، وتُجمّل ثقتها بخيارات الحياة، هي الصوت قبل الأغنية وبعدها، المكان الثابت قبل العودة المرهونة بوقت، تُصدر "لمين؟"، بعد فرط الاشتياق لجديد الحنجرة وبديع الانسياب، سيكون أيلول موعداً لألبوم كامل، بعد أغنية منفردة من كلمات الابنة ريما الرحباني وإنتاجها، تُلبّي نداء الشوق وتلامس حنيناً "مشلوحاً" فينا، بعودة هي نقيض الغياب وعبورٌ هو جوهر فلسفات الخلود.
في ذكرى رفيق الدرب، كلمات يحلو بعدها صمتٌ جميل: "إلك أو إلي أو مش لشي"، يرحل عاصي الرحباني وتبقى الحنجرة الفيروزية شامخة كالارتفاعات حيث الهواء الصافي يمجّد عظمة القمم، تُهدي الذكرى معاني الحياة بعد صفعات وخيبات ونجاحات ممزوجة بالأرق، وتطبع على جبينها ابتسامة حكيمة. فيروز امتدادٌ نحو البعيد فينا نحو التجاوز والعبور والترفّع عن الانطباع هي التمهّل قبل السقوط والتروّي قبل الورطة، وقبل كلّ تسرُّع، هي التوقُّع وضدّه، ما يُنتَظر وما تسقط عنه قواعد الانتظار، بعد الثمانين، هي الإنسان، بما قد تشعر وتقبل وترفض وتسأل وتنتظر، أو لا تنتظر، الإجابة. والأهم، بما تراه مناسباً، فتُسلّمه الذات والوقت والإرادة، "لمين؟" (لحن فرنسي لجيلبر بيكو، توزيع ستيف سايدويل)، استمرار كسر "ألوهية" الصورة وتأكيد "أنسنة" الاسم، منذ "كان غير شكل الزيتون" و"بيتي صغير بكندا" وبساطات عفوية أخرى، فيروز ملحمة بتألُّق الحنجرة رغم قلق العُمر، بالغياب وقرار العودة، بفلسفة العزلة، باختيار الوقت، هي نموذج السؤال المتعلّق بإسقاط القدسية عن الأسطورة أمام رهان التوقعات الكبرى، وهي الفنان العظيم "مُتنازلاً" عن "الاتيكيت"، "مُضحّياً" بـ"كليشيه" الانطباع الأول، متحوّلاً كنسمات، ببساطتها وخفّتها العذبة، بضحكتها وسؤال الحياة و"مش لشي، ولا أي شي".
بعد الثمانين، ترمق السنوات بنظرة أشبه بسهم في العمق، معلَّقة على أوجاع الخيبة. "لمين بتخلص العتمة؟ (...) لمين بيبكي الحور؟ لمين؟ ليه الأرض بتدور؟"، سؤال الـ"لمين؟" في ذاته مراجعة. وقفة على أبواب قد تتراءى موصودة، لكنّها بعضُ دورسٍ وعبر. غناء للحياة بمثابة مصافحة. مَدّ يدٍ بعد "قطيعة". قلبٌ يتصافى مع قلب، ويطويان الصفحة.