قبل أكثر من قرن حورب طه حسين ( 1889 - 1973 ) وشنت عليه هجمة شرسة لا لشيء سوى إنه حمل لواء التنوير ودعا للعقلانية والموضوعية، وقد حرم على إثر ذلك من مخصصاته المالية حينا، وطورد في المحاكم حينا ٱخر، وصدرت في حقه فتاوى التضليل والتكفير وأهرق الكثيرون كثيراً من الحبر ليلطخوا بياض مسعاه ويحبسوا أنفاسه، ويقصوا الناس عن كتبه وفكره لكن دون جدوى. 
وقبل أكثر من خمسين عاماُ حورب علي شريعتي ( 1933 - 1977 ) وهجّر من بلاده، وتمت ملاحقته حتى قتل في شقته في لندن، لا لشيء سوى إنه فتح باب القراءة النقدية للتاريخ والعقيدة والمذهب، ليقدم بذلك تصوراً عقلانياً مؤسساً لجيل يتسم بالوعي.
وبعد وفاته صلى عليه السيد موسى الصدر في دمشق، وأقام له أربعينية في لبنان فانبرت مجموعة من العمائم لتضليلهما وتكفيرهما علانية بمباركة من المؤسسات الدينية للأسف الشديد.
هذان مثلان على تعرّض المفكرين الاستثنائيين والأصوات الصادقة للأذى وللنفي والمطاردة وربما القتل من قبل المتشددين والمتطرفين والمتمصلحين الذين يزعجهم صوت العقل ويؤرقهم وعي الناس. 
لكن مع كل المحاولات لنفي وقتل ومصادرة رأي هذين الكبيرين إلا إنهما عاشا ومات محاربوهم، بقيت كتبهما تتلى آناء الليل وأطراف النهار ونهشت دابة الأرض الكتب التي ألفت ضدهما.
مازال طه حسين أبصرهم، ومازال شريعتي أطولهم عمراً، وما أدل على ذلك من عدم ملل المطابع من إعادة طباعة كتبهما وبلغات مختلفة.
هكذا يموت الجلاد ويخلد الضحية، وكما حمل الزمن صوت الحلاج وابن رشد والتوحيدي إلينا رغم قسوة مناوئيهم حمل إلينا أنفاس طه حسين وشريعتي.
ذلك ما لا يلتفت إليه أعداء العقل والكلمة الحرة النبيلة، أي إنهم مازالوا بسذاجتهم يحملون روّاد الفكرة والأسئلة الصعبة إلى قلوب مريديهم وإلى مكان لم يكونوا ببالغيه إلا بشق الأنفس، وكأنها سنة الحياة وإرادة الله " أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " (17: الرعد) 
ذلك فيما مضى .
أما اليوم في زمن سقوط جدر الوصاية عن العقول وانهيار السدود المذهبية المنيعة، وتحدي الناس لما أوهموهم إنه ممنوع وتخطيهم لدوائر الخوف، فقد ظهرت أيضاً أصوات تعزز هذا المنجز البشري الذي يؤسس في منطقتنا العربية وفي أوساطنا المختلفة لمنهج عقلاني علمي يراهن على الإنسانية والحب والعقلانية والعلم وينبذ التعصب والكراهية والعاطفية والجهل.
هذه الأصوات أرّقت المتشددين دينياً ومذهبياً وأقضت مضاجعهم، كما أرق صوت طه حسين وشريعتي وأمثالهما مضاجع أسلافهم.
لذا عمدوا إلى المكائد ذاتها وأساليب الشيطان نفسها، ليصفّوا عبر فتاوى التضليل والتكفير كل من يحاول التأسيس لمدرسة إنسانية عقلانية، كل ذلك ليقطعوا الطريق عليهم كي لا تصل أصواتهم للقلوب والعقول، متناسين خلود ابن رشد والتوحيدي واضرابهما، وكأنهم ورّثوا طرائق القمع والقتل تشفياُ وحقدا، مدعمين بفتاوى تبرر لهم ماهم عليه، ومستغلين عامة الناس في التحريض ضد من يستهدفونه من الرائعين.
ولعل من أهم الأسماء التي برزت في المشهد الاجتماعي والثقافي والفكري اليوم الشيخ ياسر عوده، الذي تسلل صوته كنسمة ربيع لكل قلب وبيت، وأصبحت الناس تلهج بذكره وتستشهد بمقولاته العقلانية، وتتداول محاضراته ومقاطع اليوتيوب الخاصة به، ليسهم بذلك في صنع حراك ثقافي وتحول فكري ونزعة عقلانية مافتئت تتسع وتدخل أروقة المؤسسات الدينية التقليدية التي أثقل كاهلها النقل وطرائقه، وكفرت بالعقل وهباته وإن زعمت تبنيه، ولم يقتصر الأمر على المؤسسة الدينية بل أسهم في توعية الناس وإصرارهم على قراءة مدوناتهم المذهبية تاريخيا وعقديا وفقهيا، عبر فهم معتمد على أدوات معرفية جديدة لا تعترف بالعاطفة المذهبية في دراسة المفاهيم والقضايا المختلفة، بل على ما تحمله من موافقة لمصالح الإنسان العليا واحترامها للعقل.
ياسر عوده الصوت الذي تجاوز حالة الخوف والقلق، والرجل الذي نذر ذاته ليسهم في إعادة المنهج العقلاني للساحة في زمن مهيأ لذلك، متحملاُ في سبيل الكلمة الحرة كل صنوف الأذى، لم يستسلم للعصا التي لوحوا بها لتسقيطه، بل شق طريقه ليزرع البذر الذي بيده مؤمنا أنه سيتفتق عن شجر عقل ووعي.
ياسر عوده سرى صوته في كل الأوساط المذهبية على اختلاف أطيافها، وأصبح من ضمن رموز التجديد والإنسانية والعقلانية، ومن ضمن محاربي الخرافي واللاعقلي والطقوسي البدعي، الذين مُدت إلى دعواتهم الأعناق ليؤسسوا بذلك خطاباْ إسلامياْ جديداْ يحترم الإنسان ويعلي من شأن العقل.
بذلك كله أصبح مرمى لسهام أعداء الإنسانية الذين يسوؤهم أن تتفتح عقول الناس وأن تمد أيديهم لبعض، لذلك مازالوا يتحينون الفرصة لتسقيطه، ويتصيدون عليه لرميه بالضلال والكفر، كما فعلوا سلفا لرجال أسسوا للمنهج الذي يتبناه كالسيد محمد باقر الصدر والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهما .
هؤلاء أسلاف أولئك لا يتورعون عن الكذب والفجور في الخصومة والتأسيس للإرهاب الفكري، الذي ضاقت به الناس ذرعاً، وبدأت تتجاهلهم بل تنتقدهم علانية وتتحولق حول عوده وأضرابه .
يبدو لي إن توصيف ذلك كله أصبح اليوم لا داعي له، لأننا بحضرة جيل تجاوز هذه الألاعيب والحيل وأصبح الأمر أمامه جلياْ، ولن تزيده هذه الأساليب ضد أعلام العقلانية إلا تعقلاً ونضجاً.
لذا سوف أتوجه بحديثي لسماحة الشيخ عوده وهو الطود الأشم الذي أثق في رباطة جأشه، وتحمله في هذا السبيل ما تحمل سالكو هذا الدرب وربما أكثر، لأقول له إن القوم ما نقموا منك إلا إنك آمنت بالله، ودعوت لما يرضيه دون مواربة ودون أن تأخذك فيه لومة لائم، وما أزعجهم سوى أن صوتك قد دخل بيوتهم وغيّر من عقليات أبنائهم وبناتهم ، كما غيّر ترتيب كل شيء، ومن ذلك أن زحزح مصالحهم عن أماكنها.
صوتك يا شيخ اليوم حاضر وسائر يتناقله الطيبون الطامحون في تجاوز العتمة والحلكة، لذا سيموت مناوءوك وستخلد، ستبح أصواتهم وستحمل صوتك الأرواح والعقول.
اليوم وصوت لبنان العقلاني يتجاوب مع صوت الخليج العقلاني ليمتدا بعيدا، لا يسعنا إلا أن نطمئنك إن أحبابك ومريديك أكثر من أعدائك ومناوئيك، وإننا جميعا نتفهم صعوبة التغيير لكن نصرّ معك عليه، كما نؤمن بضرورة مراجعة الخطاب وتقييم المرحلة للتحوّل لمرحلة أخرى في سبيل المصداقية والموضوعية التي يجانبها المنغمسون في التعصب الأعمى، ولن يحزننا الصادقون الذين يشاطروننا الرأي أو يختلفون معنا فيه، لأن ذلك مبتغانا.
شيخنا الفاضل لا بأس عليك اليوم ولا على الأصوات التي تشاطرك المشوار، فلم يعد الطريق موحشاً ولا الناس رعاعاً كما يزعمون، وحسبك ما أعطيت وما وهبت.
أخيراُ أقول لك واثقاً إن الدكاكين التي تبيع فتاوى التضليل والتحريض والتكفير كثيرة، لكن كا غدها اليوم لم يعد ساري المفعول، لأنه أصبح يشترى بثمن بخس دراهم، وهذا ما أمسى يفهمه الداني والقاصي، فنم قرير العين، ولا تحرم الوالهين من طيب حديثك، وليكن ما حدث فرصة للتحوّل إلى خطاب أجرأ وأشمل وأرحب، وليفعلوا ما بدا لهم، فلم يمت طه حسين وشريعتي بعد !!

 


علي النحوي