في جبل لبنان، وتحديداً في الشوف، عبارة تتردد كثيراً، وهي تعود إلى أساس الخلاف والإفتراق الماروني الدرزي. برزت تلك العبارة أيام الأمير بشير الشهابي والشيخ بشير جنبلاط، إثر خلاف بين الرجلين على تسيّد الجبل، توجه الشهابي إلى جنبلاط بالقول: "الجبل ما بيساع بشيرين". كانت هذه العبارة الإعلان الرسمي لإنطلاق الحرب المارونية الدرزية التي استمرت لسنوات طويلة. أراد وليد جنبلاط إنهاء هذا الصراع المديد والمرير في مصالحة الجبل. قبلها كان الدم لا يردّ إلا بالدم. أراد رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي والبطريرك الماروني نصرالله صفير احتواء الصراعات الدامية. بدأ جنبلاط كسر المقولة الشهيرة، والتأكيد أن الجبل يتّسع لأكثر من بشيرين، بخلاف ما كان عليه الوضع في حرب الجبل في الثمانينيات.
في الجبل اليوم، مجموعة قوى سياسية بارزة، الحزب التقدمي الإشتراكي، القوات اللبنانية، التيار الوطني الحرّ، تيار المستقبل في إقليم الخروب، وقوى سياسية وعائلية أخرى. يحرص جنبلاط على بقائها وعدم إلغاء أي طرف منها. كان جنبلاط مرتاحاً إلى تحالفه مع رفيق الحريري وبعده مع سعد، وكذلك مع دير القمر وحزب الوطنيين الأحرار، ومع القوات اللبنانية، التي كلّف نائب رئيسها ابن دير القمر جورج عدوان بالتفاوض عنه بشأن قانون الانتخاب. ما يشير إلى معرفة جنبلاط بأن ليس في إمكانه أن يتسيّد الشوف وحده، ولا يريد للتاريخ أن يعيد نفسه هناك. لكن، هناك من يريد تذكيره دوماً بذلك، عبر شنّ حروب إلغاء.
يمكن قراءة بعض التفاصيل الصغيرة للإشارة إلى مساعي الإلغاء ضد جنبلاط وضد غيره من المسيحيين في الوقت نفسه. بدأ ذلك في الانتخابات البلدية الأخيرة وما شهدته دير القمر، ويتكرر الآن تحضيراً للانتخابات النيابية. في إفتتاح سد القيسماني، قاطع جنبلاط والمقربون منه حفل التدشين. السبب كان عملية الإلغاء التي أرادها التيار الوطني الحرّ، بنسب الإنجاز له، وعدم الإشارة بأي كلمة إلى جهود جنبلاط ببناء السد منذ العام 1996. هذه ما يقرأها جنبلاط بشكل دقيق، ويستشرف منها ما سيكون عليه الواقع المستقبلي.
يمدّ جنبلاط يده إلى الجميع، لكن هناك من يريد نفض يده. الواقعية في النهاية، ستقود الجميع إلى التصافح. هذه الحسابات، وأخرى أبعد منها، أدت إلى حدوث اختلاف في الرأي وفي وجهات النظر بين جنبلاط والرئيس سعد الحريري. هي المرّة الأولى التي تصل فيها الأمور إلى هذه الحال من السوء، حتى لدى "إنقلاب" جنبلاط على الحريري وتسمية نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة، لم تصل الأمور إلى هذا التدهور. العلاقة اليوم شبه مقطوعة بين الطرفين. هناك مساع يقودها الوزير مروان حمادة وآخرون لإعادة تقريب وجهات النظر بين الطرفين، لكن الأكيد أن المشكلة أكبر من ذلك.
بعد شهر على إبرام التسوية الرئاسية، خرج جنبلاط معلناً أن هناك أموراً مخفية في هذا الإتفاق قد تظهر تباعاً. التقطت راداراته في تلك الفترة، أن هناك تحالفاً جديداً سيغير قواعد اللعبة. لا يقتصر هذا الاستشعار على جنبلاط. لدى الرئيس نبيه بري التوجس نفسه. والنائب سليمان فرنجية أعلن ذلك أكثر من مرة. حتى القوات، لديها خشية من تحالف انتخابي بين المستقبل والتيار.. على حسابها.
لكن هواجس جنبلاط تبدو الأكثر، بدأت مع مفاوضات إنتاج قانون الانتخاب، وإنقلاب الحريري على خيار التمديد، وضع رقبة برّي بيد عون، وصولاً إلى موافقة الحريري على أن يترأس مجلس الشيوخ أرثوذكسي، وليس درزياً كما ورد في محاضر اتفاق الطائف. ولم تكن عودة نائب رئيس الحكومة السابق عصام فارس بعيدة عن هذا التوجه الخفي. رفع جنبلاط الصوت عالياً، وافترق عن الحريري. الرسائل العنيفة التي أراد جنبلاط إيصالها، هي إستباقية وتحسباً لتوافق انتخابي بين الحريري وعون في الجبل، وتحديداً في الشوف. فأي تحالف بينهما سيؤدي إلى تأجيج التوتر في الجبل، والدخول في حرب إلغاء جديدة سياسية وانتخابية هذه المرّة.
يعرف جنبلاط أن عدد أعضاء كتلته النيابية سينخفض بموجب القانون الجديد. هو أعلن ذلك في مؤتمر الحزب. لكن ما لا يريده هو الإلغاء. يعتقد أن لدى عون وباسيل توجهات إلغائية، وحصر تمثيل جنبلاط بالدروز. قالها باسيل سابقاً: "لن أسمح لجنبلاط بأن يكون لدى كتلته أي نائب مسيحي". وهذا ما يجعل جنبلاط يلقي باللوم على الحريري.
القراءة الهادئة للأمور، تفيد بأنه لا يمكن للرجلين إلا أن يتحالفا. لكن الأكيد أن هناك أموراً كثيرة ستتغير في قواعد هذا التحالف. كان جنبلاط سابقاً، يحتفظ بنائب سنيّ، وبعدد من النواب المسيحيين. هذا قد يتغير اليوم. حين يحشر الحريري في بيروت، وفي طرابلس، كان يلجأ إلى التحالف مع خصومه. وهذا ما سيحصل في الانتخابات المقبلة، وما قد يفعله جنبلاط، إذ سيجد نفسه مضظراً إلى التحالف مع الحريري وعون وآخرين.
وهذا قد يدخل الجبل في حسابات معقدة، يعلم جنبلاط أن القوات تريد مرشحها، وهو النائب جورج عدوان، وهو يحرص على استمرار التحالف معه، لكنه يعلم أيضاً أن لدى الحريري مرشّحاً مسيحياً أساسياً هو الوزير غطاس خوري، وأن لدى التيار الوطني الحر مرشّحاً أو أكثر، وهو حريص على بقاء النائب دوري شمعون أو نجله للحفاظ على التنوع. هذه التوليفة، قد تؤدي إلى تناقص عدد كتلة جنبلاط، بمعزل عن مطالبة الحريري جنبلاط بالحصول على المقعد السني الثاني بدلاً من النائب علاء الدين ترو، للتعويض عن نائب سني قد يخسره في مكان آخر.
في حال حصل هذا التحالف، يمكن الخروج بتصور أولي لنواب الشوف. وليد جنبلاط أو نجله تيمور ومرشح آخر عن الدروز، النائب نعمة طعمة يبقى في اللقاء الديمقراطي، مقابل تنازل جنبلاط عن مقعد ماروني لمصلحة مرشح التيار الوطني الحر ماريو عون. بالتالي، سيخسر النائب إيلي عون. ويكون جنبلاط قد احتفظ في الشوف بأربعة نواب من ثمانية، بدل خمسة من ثمانية. أما في حال رفض عون تمثيل شمعون، ورفض الحريري حصول جنبلاط على المرشح السني الثاني، فإن إنعدام إيجاد تسوية يعني أن المعركة في الشوف ستكون طاحنة، وبما أن الشوف وعاليه دائرة واحدة، يعني أن ترجيح الكفة سيبقى لدى الدروز لأنهم أكثرية ساحقة، إنما هذا ما يريد جنبلاط تجنّبه لأجل عدم حقن الجمهور وتوتير الأجواء.
وبالإنتقال إلى عاليه، فإن جنبلاط يحرص على تمثيل الكتائب بالنائب فادي الهبر، الأمر الذي يرفضه العونيون الذين يطالبون بمقعد آخر بدلاً من النائب فؤاد السعد، مقابل أن يحتفظ النائب هنري حلو بمقعده، ويبقى أكرم شهيب وطلال أرسلان عن الدروز. في حال التحالف يكون جنبلاط قد خسر مقعدين أو ثلاثة في الشوف وعاليه، أما في حال عدم الإتفاق، فإن الأمور ستكون مفتوحة على كل الاحتمالات. وهذا قد ينعكس على دوائر أخرى، ويُعيد خلط الأوراق الانتخابية بشكل كامل في أكثر من دائرة أساسية، لاسيما في البقاع الغربي وبيروت وبعبدا.