لا يمكن الادعاء بان الضربة الصاروخية الايرانية التي إستهدفت مدينة دير الزور السورية وأصابت أريافها هي المدى الأبعد الذي يمكن أن تبلغه الصواريخ الايرانية، والتي تشمل الى ترسانتها صواريخ حزب الله وحركتي حماس والجهاد الاسلامي والحركة الحوثية في اليمن.. لكنها قد تكون الضربة الاولى من نوعها التي لا تمثل تحدياً للنظام العام في المحيط العربي المشتعل ولا لقواعد اللعبة بين أطرافه، بل لعلها ترسخ الإنخراط الإيراني في تلك اللعبة.
في حرب الخليج الاولى في ثمانينات القرن الماضي، كانت الصواريخ الايرانية التي لطالما أطلقت أيضا من قواعدها في كرمنشاه بالذات على مختلف المدن العراقية عدا المزارات الشيعية في الجنوب ، سلاح الردع الاخير ضد العراق الذي لم يمنع الهزيمة الايرانية ، لكنه كان يخفف من وطأتها الداخلية ، ويقنع المجتمع الدولي أن إستسلام إيران التام غير مجد ولا يخدم أي غرض، بل يمكن ان يضخم دور صدام حسين وطموحاته.
بعد تلك الحرب، كان هذا السلاح الايراني الفعال، ولا يزال واحداً من أهم أسلحة التوسع والتفاوض التي إستخدمها الايرانيون ببراعة طوال العقود الاربعة الماضية، سواء في لبنان او في غزة، او في محافظة صعدة شمالي اليمن حاليا، من أجل اكتساب النفوذ في العالم العربي والحضور في المحافل الدولية ، ومن أجل الحصول على الاتفاق النووي الذي ضحى من أجله اللبنانيون والفلسطينيون واليمنيون والعراقيون طبعا، أكثر مما ضحى الايرانيون أنفسهم.
وعندما قررت إيران ان ترمي بثقلها الكامل لمنع سقوط النظام السوري، توسع إنتشار الصواريخ الايرانية وظهرت على مختلف جبهات القتال في سوريا، بل كانت حاسمة في بعض الاحيان في ردع المعارضة السورية، قبل ان يلبي الروس النداء الايراني وتدخل روسيا الحرب بمختلف أسلحتها وقدراتها العسكرية (الجوية -الفضائية كما توصف في موسكو) بما فيها الصواريخ العابرة للقارات، التي فُتحت لها الاجواء الايرانية لكي تضرب المدن والبلدات السورية الخارجة عن سيطرة النظام. لكن السيادة على الارض ظلت لإيران، التي قدمت ولا تزال تقدم من المسلحين والسلاح والمال ما لم تقدمه روسيا حتى الان.
لم تكن إيران بحاجة الى إطلاق صواريخ بعيدة المدى من طراز "ذو الفقار" من كرمنشاه لكي تضرب أهدافاً مفترضة ل"داعش" في دير الزور، ردأ على هجوم ذلك التنظيم على البرلمان الايراني وضريح الخميني في طهران في السابع من هذا الشهر. فهذه الصواريخ وغيرها من الانواع الاكثر دقة وتأثيراً متوافرة بالفعل على الاراضي السورية، وهي تستخدم في معظم المعارك. كانت القيادة الايرانية بحاجة أكبر الى ذلك العرض العسكري(الصاروخي) العابر للحدود، والمهدىء للخواطر الداخلية التي شعرت بالخديعة عندما تبين لها ان القتال ضد التكفيريين في الخارج لم يمنع تسللهم الى العاصمة الايرانية بالذات.
والارجح ان خواطر الايرانيين قد هدأت في أعقاب تلك الضربة الصاروخية الاستعراضية، التي كان مفعولها على الارض شبه معدوم. فقد أخرجت تلك الصواريخ إيران من أفق ضيق، ومسدود، هو أفق الدفاع عن نظام بشار الاسد، الى المدى الاوسع الذي يكرس إيران شريكا في التحالف الدولي المكافح للارهاب، والذي جرى إبلاغ جميع أعضائه من دون إستثناء، لاسيما الاميركيين الذين تحلق طائراتهم المقاتلة في سماء العراق وسوريا على مدار الساعة، بان ثمة صواريخ إيرانية ستعبر الاجواء العراقية لتنفجر في الشرق السوري..حيث تجري هذه الايام واحدة من أكبر الالعاب النارية وأهمها.
لم تخرق الصواريخ الايرانية أي حدود مقفلة . لم تنتهك أي قواعد عسكرية محظورة: دير الزور بالذات هي ثمن الرقة ومقابلها. أميركا تغض الطرف مرة أخرى. روسيا تمد النظر الى الشرق.. حيث لا يتحدد التوسع الايراني بالمدى الذي يمكن ان يبلغه صاروخ "ذو الفقار ".