أثيرت في طرابلس مؤخراً ضجة ونقاش حاد حول قضية نقل الأثر النبوي الشريف من المسجد المنصوري الكبير إلى معرض "الآثار النبوية المباركة" الذي افتتحته جمعية "أكيد فينا" برئاسة السيدة فيوليت الصفدي وأعده الدكتور خالد تدمري الذي لفت إلى انه ″تمّ أثناء الإعداد للمعرض تتبّع الآثار النبويّة المباركة في كل أصقاع الأرض والتي انتشرت على بقعة واسعة من دول العالم الإسلاميّ بفضل من تناقلها وحفِظها بأمانة″. وأشار الى انه ″لأوّل مرّة يُعدّ معرض من هذا النوع حول العالم، اذ قام فريق العمل بزيارة وتصوير المساجد والمتاحف في كلّ من السعودية وتركيا ومصر وفلسطين وسوريا ولبنان وباكستان والهند وأفغانستان التي حُفِظت فيها الآثار الشريفة والمقتنيات المباركة″.
إنقسام وشظايا
انقسم المعنيون بهذا الشأن بين مؤيّد ومعارض، ووصلت شظايا هذا الإنقسام إلى السياسة والحديث عن الإستغلال الإنتخابي ، فضلاً عن "الفتاوى" التي تطايرت ذات اليمين وذات الشمال، بالترافق مع الآراء الحادة والهجمات النافرة.
لن أخوض في النقاش الفقهي من بابه الشرعي، لأن أهل الإختصاص والمرجعية لم يعطوا رأيهم الصريح والواضح ، وأميل إلى اعتبار المسألة خاضعة للإجتهاد نظراً لوجود سوابق تاريخية ومعاصرة تتعلق بنقل الأثر الشريف ، وترتبط بمدى حضوره في ضمير المسلمين ، متصلاً بحب صاحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن الثابت أن الكثير من الآثار النبوية الشريفة تم نقلها على امتداد العالم الإسلامي ، وفي أوقات وأماكن مختلفة ، وفي ظروف متعدّدة ، وكان من بينها ، الأثر الشريف الذي أهداه السلطان عبد الحميد الثاني إلى مدينة طرابلس ، وهو شعرة من لحية الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد أن احتفظت به الخلافة العثمانية مدة طويلة من الزمن.
إذاً،
الآثار النبوية الشريفة توزعت بعد إنتقاله صلى الله عليه وسلم في أرجاء المعمورة ، وانتقلت بين أيدي الصحابة والتابعين ، وإلى عهدة الخلفاء وكان الجميع يحتفون بها باعتبارها كنزاً لا يقدّر بثمن ، وصلة مع صاحب الرسالة العظمى عليه الصلاة والسلام.
وفي طرابلس ، كان موضع الأثر النبوي الشريف في المسجد المنصوري الكبير ، وهو يـُتـاح أمام عموم الناس في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك.
لماذا هذه الضجة؟
من الواضح أن الأثر الشريف سبق أن تم إخراجه من المسجد المنصوري في مناسبات سابقة ، تشبه المناسبة التي يقيمها الدكتور خالد تدمري في مركز الصفدي الثقافي ، من دون أن يثير ذلك أي ضجة أو سجالاً ، فما هو سبب الإثارة الآن؟
النقطة الأساس المحسومة هي الرأي الديني . فالواضح أن نقل الأثر الشريف مسألة جائزة ، وإلا لكان الفقهاء الأوائل والمعاصرون أجمعوا على إعادتها إلى المدينة المنورة وحفظها بجوار صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام ، وهذا أمر لم يحصل ولم يفت به أحد من أئمة الإسلام..
إذاً،
هل سبب السجال يعود إلى ارتفاع حساسية الناس وبحثها عن أي قضية لتدلي برأيها فيها مع تشعب الأمر تلقائياً نحو التزاحم السياسي؟
أما موقف دار الفتوى وما أثير حوله ، فهو يتعلق بالمسألة من الناحية الإدارية ، لا من حيث المبدأ في قضية نقل الأثر الشريف ، لأن النقل سبق أن حصل في مناسبات أخرى ، ولا يمكن التمييز بين جهة وأخرى لأن المساواة واجبة.
لماذا فرز المسلمين؟!
أثار المعترضون جملة مسائل قضية نقل الأثر الشريف إلى مركز الصفدي الثقافي ، لا بد من مناقشتها ، ليس لأنها ترتبط بهذا الحدث فقط ، بل لأنها تشكّل منظومة إشكالية تصطدم بها أي مبادرة جديدة أو متقدمة.
رأى البعض أنه لا يصح نقل الأثر الشريف إلى ما أسموه "مركزاً علمانياً". وهذا التصنيف يحتاج إلى نقاش عميق ، لأن فرز المسلمين بين إسلاميين وعلمانيين ، أو بين إسلاميين و"عاديين" هو تصنيف يحمل في طياته التمييز ويقسم المجتمع المسلم ، خاصة أن ها التصنيف يأتي في سياق تحديد مراتب الإقتراب أو الإبتعاد من الدين ، ويكاد في بعض الحالات يكون من عِـدّة التكفير العلني أو الضمني..
والوزير محمد الصفدي ، مثل سواه من المسؤولين المسلمين لا يمكن إخراجهم من دائرة الدين لمجرد الرأي في مقاربة الشأن العام ، والأفضل في هذا السياق لكل من يعتبرون أنفسهم معنيين بالدعوة أن يضعوا الخطط والمبادرات المطلوبة وطرحها على كل المعنيين لاستعادة الدور الثقافي والحضاري لطرابلس ، مع التأكيد على الفصل بين رؤيتنا هذه وبين العلاقة السياسية أو رؤيتنا لأداء الوزير الصفدي في الشأن العام ، فلهذا حديث آخر.
إن تقسيم المسلمين بين إسلاميين وغير إسلاميين أدى في فترات سابقة ولا يزال ، إلى حدوث تصدعات كانوا بغنى عنها، فضلاً عن أن هذا الأسلوب أدى إى أضرار دعوية كبيرة ، وساهم في تراجع حضور الدين في المجتمع.
ومن ناحية أن "مركز الصفدي" ينظم نشاطات فنية ، ربما لا يراها الجميع مناسبة ، وقد تكون لنا ملاحظات على بعضها ، لكن هذا لا يمنع من أن يستضيف المركز نشاطات إسلامية ، وحضور الداعية الكبير عمر عبد الكافي وتقديمه محاضرتين تحت عنوان "خواطر رمضانية - بين التكليف والتشريف و مفاتيح الخير" ، مثال لما يمكن للمركز أن يقدمه من دور ، إذا حصل تفاعل إيجابي متبادل بين إدارة المركز وبين المهتمين بالشأن الثقافي الإسلامي.
في هذا الإطار ، ندعو إدارة مركز الصفدي إلى الإقتراب أكثر من واقع طرابلس ومن نسيجها ، وتعزيز النشاطات المرتبطة بهوية المدينة وحارضها ومستقبلها ، لأن من شأن ذلك أن يجعل الكثير من العوائق تتساقط عند أوساط تتحفظ على الأداء الحالي.
حدثٌ إيجابي كبير
لا يمكن إنكار أن معرض الأمانات النبوية شكل حدثاً كبيراً وحمل معه في أجواء شهر رمضان المبارك عبق النبوّة ودفع محبي الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إلى استذكاره والقدوم مدفوعين بحبه والتوق إلى أثر للصلة به ، فجاؤوا أروقة المعرض واستعادوا لمحات من تاريخ الإسلام ، وتعرّفوا على محطات في حياة نبيهم العظيم ، من دون أن يكون في ذلك أي خرق أو إشكال شرعي.
وما قيل عن أن الأثر الشريف يُعرض أمام "نساء كاسيات عاريات" غير صحيح ، لأن إدارة المركز ألزمت النساء بغطاء رأس وضعته النساء غير المحجبات ، ولم يكن هذا الحديث واقعياً
رؤية دعوية
في المنطق الدعوي المعاصر ، وفي ظل الحرب التي يتعرض لها الإسلام ، يصبح نشاط مثل معرض الأمانات النبوية ، وفي موقع مثل مركز الصفدي أمرا ضرورياً ، لأن شرائح واسعة من المسلمين لم تعد تسمع أو ترغب في سماع خطاب تقليدي لكثير من المشايخ والحركات الإسلامية ، وهذه الشرائح بات يفصلها بون شاسع عن هؤلاء ، وهذا أثـّر سلباً على الحركة العامة للدعوة ، وبات يوجب إعادة نظر من الجميع في الأسلوب والخطاب.
إشكالية التنافس السياسي
إعتبر المعترضون في سياق حملتهم أن الوزير محمد الصفدي يريد إستغلال المعرض سياسياً وإنتخابياً.
وبغضّ النظر عن حقيقة أن معرض الأمانات النبوية يجري التحضير له منذ أكثر من عام ، وليس في حساب معدّه الدكتور خالد تدمري حسابات السياسة ، فنحن مع أن يتنافس السياسيون على الخير ، وأن يتسابقوا في إبراز هويتهم وانتمائهم الديني والحضاري ، لأن هذا التنافس لن يبقى محصوراً في موسم معيّن، بل إنه سيتحول إلى مناخ عام يستفيد منه أصحاب الهمّ الدعوي الذين يتعيّن عليهم وضع تصورات عملية لتجديد الخطاب الديني واقتحام المجال الثقافي بأساليب تتمكن من استقطاب الشباب والشرائح التي همّشها الخطاب الإسلامي السائد حالياً.
لماذا إدخال الناس في نقاشات مزمنة؟
أما التشكيك في كون بعض الآثار التي تم عرض صورها ليست مـؤكدة النسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فهذا نقاش له ما له ، وعليه ما عليه ، لكن الثابت أن معرض الأمانات النبوية تضمن آثاراً ثبتت نسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم ، والناس قصدت المعرض محبة به، وتحقـّقت منه غاية كبرى ، هي إظهار طرابلس لتعلقها بهوية دينية حضارية ، من غير إفراط ولا تفريط ، ولا نرى أن إدخال الناس في هذا النقاش مناسب لأنه نقاش تاريخي لا ينتهي ، بين مؤيد ومناقض ، ولأنه ليس من شأن عامة الناس الخوض فيه.
الطائفية مرفوضة
في سياق السجالات الدائرة ، كان أسوأ ما سمعت ذلك الإيحاء الطائفي حول دور السيدة فيوليت الصفدي ، وفي ذلك جنوح مقيت ، ليس له مكان في طرابلس ، ومن استخدمه أساء لنفسه قبل أن يسيء إلى أي شخص آخر.
الأثر الشريف محركاً للحياة الدعوية
في الختام ، نستغرب كل هذه الضجة ونسأل: لماذا تصاعد الإهتمام الآن بحضور الأثر الشريف ، بينما لا يكاد الناس يتذكرونه إلا في يوم محدّد من كل عام ، ومن هنا فإننا ندعو إلى أن يكون هذا الأثر الكريم محرّك الحياة الدعوية عبر فتح المجال على مدار العام لأبناء طرابلس ولزوارها لزيارته ، وتخصيص إدارة تتفرغ للعناية به وتنظيم التوافد إليه ، والإنفتاح على المؤسسات الدعوية والثقافية والإجتماعية للتعاون معها في هذا المجال ، لأننا لا ندرك الحكمة من إبقاء هذا الأثر المبارك حبيس الجدران ، بدل أن يكون محطة استذكار دائمة لحب النبي عليه الصلاة والسلام على مدار العام.
أمين عام التحالف المدني الإسلامي في لبنان.