أبلغ المحيطون بالقصر الجمهوري الى مَن يعنيهم الأمر أنّ رئاسة الجمهورية «ستقف بكل قوة» في مواجهة الحملة الجديدة من العقوبات الأميركية المنتظرة ضد «حزب الله»، مهما كانت قاسية.
وعندما سُئِل هؤلاء: ألا تخشون أن يؤدي هذا الموقف إلى أن تشمل العواقبُ لبنانَ بأسره؟ أجابوا: «لن نتراجع عن تموضعنا السياسي الداعم لـ«حزب الله»، ولن نتّخذ أيّ موقف مُعادٍ لتوجّهات إيران، مهما تقلّبت المواقف الداخلية والإقليمية».
طبعاً، الذين سمعوا هذه التأكيدات الجازمة «إنتحارياً»، بالتضامن مع «الحزب»، يصدِّقونها جزئياً لا كلياً. فالمنطق يقول إنّ موقع رئاسة الجمهورية المسيحي في لبنان لا يمكنه في أيّ شكل أن يناقض قرارات الشرعية الدولية، ولا سيما منها القرار 1701، وأن يتصدّى للولايات المتحدة، فيما هو يعتمد حيوياً على دعمها العسكري والأمني والاقتصادي والمالي.
أكثر من ذلك، من باب مصلحة «حزب الله»، لا يستطيع موقع رئاسة الجمهورية أن يخسر رصيدَه الأميركي والدولي، لأنّ «الحزب» نفسه يحتاج إليه في المواجهة المفتوحة. فمَن أفضل من العماد ميشال عون في موقع الرئاسة، و»التيار الوطني الحر»، لحماية «الحزب» تحت الغطاء اللبناني، بل المسيحي.
وعلى خطٍّ موازٍ، مَن أفضل من الرئيس سعد رفيق الحريري، زعيم القوة السنّية الأوسع والأقرب إلى السعودية، في موقع رئاسة الحكومة، لحماية «الحزب» من حملة المحور السعودي والقوى الدولية والولايات المتحدة أيضاً؟
في المواجهة التي يتعرَّض لها «حزب الله»، مالياً وسياسياً، والتي ستترجمها عقوباتٌ أميركية مؤكدة في مدى الأسابيع أو الأشهر المقبلة، يَطمئنّ «الحزب» إلى أنه في أمان، ويعرف «التيار الوطني الحرّ» كيف يلعب عند الحدود الفاصلة التي تؤمّن مصالحه وترضي «الحزب»... من دون أن تزعج واشنطن.
إذا أراد عون الذهاب بعيداً في تحدّي واشنطن وعقوباتها، فأوّل طرفٍ سيدعوه إلى الهدوء والواقعية وإمرار المرحلة بالحدّ الأدنى من الخسائر هو «حزب الله» الذي يمتلك ما يكفي من الخبرة والحكمة والمهارة السياسية، والذي اعتاد اللجوء إلى الخطة «ب» كلما فشل في الخطة «أ»، ويعرف كيف يستبدل الخطط إلى ما لا نهاية، دفاعاً عن نفسه.
يعرف عون ذلك. ولذا، عندما يقول إنه سيتحدّى الولايات المتحدة وعقوباتها والمجتمع الدولي دفاعاً عن «حزب الله»، فإنّ موقفَه يحمل الطابعَ الاستعراضي خصوصاً، لا الطابع العملاني.
فلبنان الرسمي لن يصل إلى هذا السقف من تحدّي الولايات المتحدة، أيّاً تكن الحيثيات. والدليل إلى ذلك أنّ لبنان انصاع تماماً لمندرجات قانون العقوبات الأميركي الحالي، أي قانون 2015، في عهد باراك أوباما. وتجاوب معه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي جدَّد له الجميع في منصبه.
والأزمة التي وقعت بين الحاكم و»حزب الله» يومذاك، على خلفية هذا الموقف، كانت سطحيةً وسرعان ما انتهت، لأنّ «الحزب» نفسَه يدرك الدوافع التي استدعت أن يتّخذ الحاكم هذا الموقف.
وقد وقفت طبقةُ رجال الأعمال والمصرفيين والمغتربين الشيعة، والعديد من سياسيّي الطائفة، في منطقة وسطى أدّت إلى حلحلة الأزمة. وهذه الطبقة يهمّها إنقاذ نفسها ومصالحها، ولكن أيضاً مصالح الطائفة والاستقرار اللبناني، والرئة التي يتنفس بها لبنان. فإذا اختنق، سيختنق الجميع.
يُدرك «حزب الله» أنه اليوم «محشور»، لكونه أحد أجنحة إيران المستهدَفة. ولذلك، يهمّه «تلميع» صورته اللبنانية. وهناك فائدة له من مظلّة قوامها عون في بعبدا والحريري في السراي الحكومي، شرط أن لا يؤدي ذلك إلى خسارته المبادرة على مستوى القرار.
تركيبة السلطة المثالية التي يريدها «الحزب» ليست هذه القائمة حالياً. وهو أدرك مسبَقاً أنّ وجود عون في بعبدا سيتسبّب له بـ»وجع الرأس». والحال أنه والرئيس نبيه بري غارقان في معركة حامية مع عون و»تياره» منذ لحظة وصوله إلى الحكم، حول كل شيء، فيما انقلبت علاقة عون والحريري إلى شبه تحالف لإقامة توازن مع «فائض نفوذ» «الحزب».
«الحزب» «يتعذّب» مع عون أكثر بكثير ممّا كان «سيتعذَّب» لو كان في السلطة أحد «الوسطيين» المعروفين، أو رموز 8 آذار الأخرى. وهو وافق على عون لا كخيارٍ مثالي، بل كخيارٍ اضطراري. وإعلان الحريري والدكتور سمير جعجع دعمهما عون أحرج «الحزب» فوافق عليه. ووجد لاحقاً أنّ وجود عون ينفعه في خطة المواجهة مع واشنطن.
بعد ذلك، لم تكن تركيبة الحكومة مثالية لـ«الحزب»، لكنها جاءت مُرْضية. وما جرى في ملف قانون الانتخاب ليس مثالياً لـ«الحزب»، لكنه خيارٌ واقعي مقبول، لأنه يتيح له الاحتفاظ بالقدرة على المبادرة.
شهد «الحزب» كل التجاذبات العنيفة التي دارت خصوصاً بين حليفَيه الرئيس نبيه بري والوزير جبران باسيل. طبعاً، هو إلى جانب بري، لكنه تحمّل كثيراً تمادي باسيل - ممثلاً عون- لسببين:
1 - لا يريد في أيّ شكل إظهار أنه يعارض استعادة المسيحيين التوازن المفقود في الحكم.
2 - إنه مرتاح إلى أنّ الأمور مضبوطة في النهاية.
ظهر «الحزب» وكأنه يتحمّل «دلعاً» سياسياً ليس من عاداته أن يتحمّله. لكنّ مسار الملفات ينتهي دائماً ضمن دائرة الأهداف التي وضعها. وقد نجح في فرض التمديد سنةً كاملة للمجلس الحالي، وصاغ قانوناً يضمن له الموقع القوي. وبعد سنة، سيكون لكل حادث حديث.
خلال سنة كاملة سيدرس «حزب الله» كل المعطيات ويراقب التوازنات الداخلية والإقليمية. ولكن، خصوصاً، سيطلب من عون والحريري أن يدافعا عنه عربياً ودولياً، وسيفعلان. وقد أثبت «الحزب» مرّة أخرى أنه أكثر اللاعبين استراتيجية. فهو يشتغل بالجملة، فيما الآخرون غارقون في حسابات «الصوت بالطالع» و«الصوت بالنازل»!