بالمعايير اللبنانية، هي معجزة: السياسة ما زالت حية. السلاح ما زال خفياً، وهو يفرغ ذخائره وراء الحدود ، حيث تتفاقم الحروب وتتوالد الازمات، ويحصل لبنان على ما يشبه العفو العام، والاستغناء الكامل عن خدماته ووظائفه السابقة، والاكتفاء بتقديم آخر الأضحية الفائضة، وتوفير الخبرات القتالية المهمة التي إكتسبها على مر السنين والتي لم تعد له حاجة بها.
لن يصبح لبنان جزيرة معزولة. كان وسيبقى غابة من الطوائف والمذاهب والتيارات والاحزاب والفرق الناجية والفانية، التي تحتكم لشريعة الغرائز والعصبيات الدنيا. وكل يوم يمر من دون ان ينفجر الشارع على نطاق واسع، وتسقط فكرة الدولة من الخيال، هو إنجاز عظيم، وحظ قوي، وإستثناء فريد.
لعلها العناية الالهية، او ربما المصادفة التاريخية ، هي التي دفعت القوى السياسية الحاكمة الى ذلك الصراع الحاد في ما بينها ، والذي إستخدمت فيه شتى أنواع الأسلحة الطائفية المحرمة، وسجلت في سياقه مختلف أشكال الغدر والخداع والنفاق، وشهدت غرفه السوداء جميع محاولات الاقصاء والالغاء والتحجيم.. قبل ان تنتهي تلك المعركة الطاحنة الى تواطؤ هش يقوم على الاعتراف الملزم بالآخر ، والإستعداد لطعنه في الظهر في أول فرصة ممكنة.
في بعض الاحيان بدت تلك المعركة وكأنها تدور في قلعة محصنة، بعيدة عن أعين العامة ، وعن مصالحهم، بل وحتى عن إهتماماتهم. كانت معركة فريدة خاضتها الطبقة السياسية الحاكمة بضراوة شديدة، من دون أن تسمح بإنهيار داخلي كما حصل مراراً، ومن دون أن تستدعي تدخلاً خارجياً كما حدث تكراراً. وهو ما يندرج في باب الدهاء والمكر والحنكة، التي أثبت المسؤولون اللبنانيون أنهم روادها ومحترفوها.
مجريات المعركة وحدها، وليس الوعي المستجد أو الرؤية البعيدة ، هي التي فتحت مسار المزايدة المتبادلة بين القوى السياسية، التي كانت تستل الخناجر وتتبادل الطعنات وتستعد للتصفيات، والشروع في البحث المتردد والمتعثر والمتعرج عن قانون إنتخابي بديل للفراغ او لقانون الستين، وإستخدام النسبية والدوائر الموسعة، فقط كوسيلة قتالية ضد الآخر تصفي وجوده النيابي نهائيا او تقلص ذلك الوجود الى الحد الادنى.
المعركة لم تنته. وهي لن تتوقف عند إقرار القانون الجديد للانتخابات. الاشتباكات المقبلة ستكون بلا شك أشد ضراوة ، من الآن وحتى موعد فتح مراكز الاقتراع والبدء بفرز الاصوات وإعلان النتائج في الربيع المقبل. والمفاجآت لن تتوقف. وهنا بالذات تكمن الفرصة لجميع القوى المتضررة او المهمشة، وتتسع الثغرة التي ظهرت في صفوف الطبقة السياسية الحاكمة، والتي يمكن ان تتسع بالقليل من الحكمة والكثير من الحنكة.
ثمة ثغرة ضيقة جدا، لا تعبر عن تصدع القلعة السياسية المنيعة، التي تبدو اليوم وكأنها واحدة من أقوى القلاع في العالم العربي وأقدمها، لكنها تستدعي التوقف عن هجاء القانون الجديد، كما هو جار الآن في بعض الهيئات والاندية وصفحات التواصل الاجتماعي، بلغة مستعارة من الواقع الاسكندنافي، لا من البؤس اللبناني، الذي يطرد سلفاً الوهم بإنه كان يفترض أو يرجى أن ينتج المسؤولون اللبنانيون الحاليون قانوناً إنتخابياً اسكندنافياً.
ثمة فرصة متواضعة جداً ، لكنها حقيقية هذه المرة ، للإستفادة من تلك المعركة الضارية بين القوى السياسية الحاكمة ، والمرشحة للمزيد من الضراوة في الاشهر الفاصلة عن موعد الانتخابات بين المسؤولين الذين توصلوا الى ذلك التفاهم الانتخابي الهجين، المفتعل، والمؤقت بلا أدنى شك. في جميع الدوائر من دون إستثناء، ثمة مجال للوائح بديلة ووجوه جديدة، وربما لإختراقات بسيطة، للتحالفات الانتخابية غير المقدسة، وللكتل الحزبية الصماء، وللمقاعد النيابية التي بدأت عمليات البيع والشراء لها إعتباراً من الليلة.
ثمة أمل ضئيل بأن يتسلل بعض المغامرين الى القلعة الحصينة ويعملوا على تعديل قوانينها، قبل ان تضيع الفرصة وتُسد الثغرة..وتفقد المعارك السياسية-الانتخابية جاذبيتها الراهنة.