العمليّتان الإرهابيتان في طهران، كشفتا بعد اتهام «داعش» بهما، أن داء الإرهاب كان كامناً، ولم يكن بعيداً الى ما وراء الحدود. الآن يؤكد المسؤولون الإيرانيون أنّه لم يبقَ أثر لخلية «داعش» في البلاد، بعد قتْل مَن هاجم واعتقال 62 فرداً على صلة بالمجموعة مشتّتين في مختلف المدن من طهران الى كرمنشاه. إذاً، من المُفترض أن لا تقع بعد اليوم أي عملية إرهابية في إيران. لكن بين الخطاب والفعل، فارق كبير أقل ما يُقال فيه بعد ردّة فعل المفاجأة، التعميد بالنار والدماء. لذلك لا أحد اليوم في العالم يمكنه حسم المواجهة لأنّ إرهاب «داعش» أخطر وأقوى من إنهاء مجموعة أو أكثر.
السؤال الكبير هو لماذا أعلنت طهران عن مسؤولية «داعش» عن العمليّتين، وهي تعرف أنّها بذلك وضعت نفسها في مسار لا يمكن تجنّب المواجهات فيه؟
يرى متابعون للتطورات في إيران، أن اتّهام «داعش» كان أهون الشرور، والأقل كلفة استراتيجياً وعلى صعيد الأمن القومي الإيراني. يمكن لإيران اليوم التأكيد بأنّها عضو في «النادي» الدولي وليس التحالف الدولي المنخرط في الحرب ضد الإرهاب «الداعشي»، بذلك أسقطت كل الاتهامات بأنّها تعاونت أو أنها قدّمت تسهيلات سواء لـ«داعش» أو لـ«القاعدة». مهما كانت كلفة هذا الانخراط يبقى أقل كلفة من باقي الاحتمالات. خصوصاً أنّ بإمكانها أن تطلب أي مساعدة دولية وأن تلبّى لضرب «داعش».
النظام الإيراني، بدا منذ اللحظة الأولى للعمليّتين أمام حائط مسدود، لذلك بدت التسريبات الأولى متناقضة، من مثل وجود عرب وبلوش بين الإرهابيين الى جانب الأكراد، وصولاً الى البيان الأخير الذي حصر العمليّتَين بالأكراد. وما ذلك إلا لأنّ طهران توجّست القلق من أن يكون «البلوش» هم الذين أرسلوا المجموعتين خصوصاً أنّ لديهم البنى اللازمة لمثلهما. أما لماذا بدت طهران قلقة فلأنّ حصر الاتهام بالبلوش أو حتى توزيع المشاركة، يعني أنّ «النار المذهبية السنية – القومية» البلوشية تمدّدت الى وسط طهران، وهذا يُشكّل اختراقاً مباشراً للنار المذهبية في المنطقة الممتدة من سوريا الى العراق الى قلب إيران، مما يفتح سجالات واسعة يمكن من خلالها اختراق كل السياسة الإيرانية في المنطقة.
أما أنّ الأكراد قد قاموا بالعملية، فإنه يحصر المواجهة بالتوجه القومي والالتزام به. الأكراد ليسوا جدداً على المطالبة بالاستقلال أو حتى الحكم الذاتي. الأكراد الإيرانيون كانوا السبّاقين في المطالبة بالاستقلال مع قيام «جمهورية مهاباد» عام 1946 في إيران، ومن ثمَّ مع تبلور المطالب الكردية مع عبد الرحمن قاسملو الذي من أجل اغتياله ضحّت إيران بأحد أبرز المفكّرين الإسلاميين فاضل رسول. وقد نجحت بعد هذه العمليّة بإبعاد «شبح الخطر الكردي» عن إيران حتى الآن.
أيضاً، وهو مهم جداً، أن المزج بين الأكراد و«داعش»، يُسقط أي محاولة غربية لدعم المطلب الكردي بالاستقلال كما يحصل في سوريا حالياً. بهذا يكون النظام الإيراني قد اصطاد بضربة واحدة الأكراد ومطلبهم بالاستقلال، وبالدعم الدولي في محاربتهم لأنهم بذلك يحاربون «داعش». إلى جانب ذلك، وهو مهم جداً، تتحقّق الشراكة التركية – الإيرانية عسكرياً وأمنياً لضرب العدو المشترك أي الأكراد، خصوصاً أنّ استفتاء الأكراد في كردستان – العراق حول الاستقلال أصبح قائماً بعد تحديد موعده رسمياً في أواخر الصيف المقبل.
بالنسبة للنظام الإيراني، فقد حقّق نجاحاً كبيراً حتى الآن رغم الاختراق الأمني الكبير الذي أنتج حصول العمليّتَين. لكن ذلك لا يكفي، لأن التطورات مقلقة بالنسبة للنظام نفسه. حصر الاتهامات بـ«داعش» لا يلغي وجود «أحزمة من النار» القومية والمذهبية على «بوابات» إيران الجغرافية والسكانية، وأنه يمكن عبر «حرب الظلال» و«الحرب الناعمة» فتحها وصولاً الى قلب إيران السياسية. وإن ذلك يجري وسيجري على قاعدة المواجهة الأميركية – الإيرانية، التي لم تتوقف، ولن تتوقف، هذا إذا لم تتصاعد.
من المؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية، سواء اليوم مع الرئيس دونالد ترامب أو غداً مع أي رئيس أميركي أكان متشدداً أكثر أو معتدلاً أكثر من باراك أوباما، لن تشن حرباً واسعة وشاملة على إيران. وجودها على خريطة الشرق الأوسط قائم وضروري ومفيد في حالات كثيرة. أيضاً، فإن إيران مهما «تنمّرت» وعلت تصريحات جنرالات «الحرس الثوري» لا تجسر على شنّ حتى عمليّات مباشرة فكيف بالحرب ضد أميركا. لكن هذا لا يحول دون وجود مشكلة ما زالت حتى الآن مستعصية.
واشنطن تريد إيران أن تكون «محفوظة المصالح» في منطقة الشرق الأوسط، إن بسبب قواعد وشروط الجغرافيا أو لأن الأمل بعودة «الغيمة» الإيرانية الى الفضاء الأميركي لا بد أن يحصل. أكثر ما يدعم هذا الأمل أنّ الشعب الإيراني غير معادٍ لأميركا، وأن العداء هو من الحكومة والنظام الحالي، وذلك بعكس العرب حيث العداء شعبي والتفاهم والتفهّم مستمران بين الأنظمة وواشنطن.
إيران بعد أن حقّقت نجاحات غير مسبوقة جعلت الجنرال قاسم سليماني يصلّي على الحدود السورية – العراقية المشتركة ليؤكد بذلك «أنّ الطريق فتحت بين دمشق وبغداد»، أو كما يُشاع في طهران وبغداد أنّه جرى الاتصال والتواصل «عبر طريق عريض بين السيّدة زينب في دمشق والإمام العباس في كربلاء»، لا تبدو مستعدة للتخلي عن هدفها بأن تكون «شريكة كاملة الحقوق مع الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة».
السؤال ما هو الحدّ الأقصى الذي ستذهب إليه طهران في هذا المسار؟ وماذا ستفعل واشنطن أمام هذا الطموح الإيراني؟ وإذا كانت الحرب الشاملة مستحيلة فهل تكون الحرب بالوكالة و«حرب الظلال» هي البديل، وكيف وإلى أي مدى ستردّ طهران على مثل هذه الحرب التي لها من الأسباب والشروط الكامنة والصاعدة منتشرة على مساحة إيران الواسعة لانتشار الحرائق؟.