لن يخرج إلى الملأ إلا الروايات الرسمية الإيرانية حول ما جرى من عمليات تخريبية استهدفت البرلمان الإيراني ومرقد مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني خلال الأسبوع الماضي، التقارير الإعلامية المنسوبة إلى جهات رسمية أشارت إلى عملية إرهابية نفذها تنظيم داعش عبر تفجير انتحاري ومواجهة مسلحة أدّت إلى سقوط 17 ضحية إيرانية في الموقعين المذكورين، وإلى مقتل منفذي الاعتداءين اللذين وقعا في وقت واحد. الرواية الرسمية أيضا أشارت إلى أن المنفذين هم إيرانيون، فيما الحرس الثوري سارع إلى اتهام المملكة السعودية بالوقوف وراء هذا الاعتداء. وزارة الاستخبارات الإيرانية قالت إنها سترد في عملية سرية وستستهدف مدبري العمل الإرهابي الذي استهدف رمزي الشرعية الدينية للنظام أي مرقد الخميني، والبرلمان رمز الشرعية الشعبية له.
بعد أيام قليلة أعلنت طهران أنّها قتلت المسؤول عن هذا الهجوم، لكن من دون أن تحدد هويته ولا المكان أو الزمان للرد، وتلاه بيان لاحق أن المنفذين هم من التابعية الكردية، بعدما كانت معلومات ترددت عن أنّ المنفذين ينتمون إلى البلوش وهي القومية التي يقيم غالبية أبنائها في مناطق الحدود مع باكستان، حيث كانت مواجهات عدة جرت في الأشهر الأخيرة في تلك المناطق أدّت إلى سقوط عناصر من الحرس الثوري، وأدّت إلى قيام مسؤولين إيرانيين أمنيين وسياسيين بزيارة إلى باكستان لبحث تداعيات ما يجري في تلك المناطق الحدودية لا سيما في الجانب الإيراني.
الأقليات العربية والكردية والبلوش، تشكل نحو 25 في المئة من الشعب الإيراني، وتعاني هذه الأقليات إلى جانب كونها تعيش في أطراف الدولة، تمييزا لجهة الخصوصيات القومية ومن إهمال على مستوى التنمية، ومن تمييز على مستوى المشاركة في السلطة، وهي سياسة لم تكن ناشئة من زمن تأسيس الجمهورية الإسلامية، بل تعود إلى مرحلة الحكم البهلوي، لذا دعوات انفصال الأقاليم الكردية والعربية تعود جذورها إلى الثلث الأول من القرن الماضي، ومازالت حتى اليوم، في ظل استمرار سياسة التهميش والإقصاء الممارسة تجاه أتباع هذه القوميات في ظلّ حكم الجمهورية الإسلامية.
على أنّ ما يمكن ملاحظته في العمل الإرهابي الذي استهدف إيران، هو أنها المرة الأولى التي يتم فيها استهداف النظام الإيراني بعمل إرهابي منذ نشوء تنظيم القاعدة ومن ثم تنظيم داعش، علما أن تنظيم مجاهدي خلق المحظور في إيران كان قام بعمليات أمنية وعسكرية في عقد الثمانينات ولا سيما في السنوات الأولى بعد قيام نظام الجمهورية الإسلامية، وكان أشهرها تفجير مقر الحزب الجمهوري والذي ذهب ضحيته معظم قيادات الدولة في العام 1980.
ورغم إعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن العملية الأخيرة، فإن التساؤل يبقى مطروحا حيال طبيعة العمل الإرهابي هذا الذي كشف عن أسلوب مختلف عما نعهده من تنظيم داعش، فالأخير اتسمت عملياته الإرهابية باستهداف المدنيين وقتل أكبر عدد ممكن منهم، أي تنظيم عمليات انتحارية هدفها قتل أكبر عدد من الناس وبما تيسر من دون تمييز. فيما أبرز ما يمكن ملاحظته في طبيعة العمل الإرهابي الأخير في إيران أنّ منفذيه كانوا يتقصدون بالدرجة الأولى استهداف أمكنة لها دلالة سياسية وسيادية ودينية، وتحظى بإجراءات أمنية يُفترض أنها في نظام كالنظام الإيراني ذي السمة الأمنية، تحول دون القدرة على اختراقها، لكن اختراقها من قبل هذه المجموعة يشي بأنّ ثمّة ما يتجاوز قدرات هذا التنظيم لا سيما لجهة التخطيط الذي ينطوي على قدرات أمنية واستخبارية عالية، وربما هذا ما يجعل بعض المتابعين للسياسة الإيرانية، يذهبون إلى فرضية أن العمليتين الإرهابيتين يتضمنان رسالة استخبارية إقليمية أو دولية، وهي رسالة بحسب هذه المصادر تتضمن نوعا من التحذير الذي يريد للقيادة الإيرانية أن تدرك أن إمكانية حصول اختراقات أمنية بهذا المستوى ليست مستحيلة بل يمكن أن تعتمد ضدها.
وهذه الرسالة الأمنية تأتي في سياق الاستعراض الأمني الجاري على امتداد المنطقة بمعنى أن إيران لن تكون خارج دائرة الاستهداف فيما لو بقيت دول العالم والعالم العربي على وجه الخصوص عرضة لعمليات إرهابية، ولا يمكن فصل ما جرى في إيران عن الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدتها الإدارة الأميركية تجاهها فالرئيس دونالد ترامب، وضع إيران كهدف لا سيما في ما يتصل بنفوذها الخارجي وفي ملفها النووي.
عدم استهداف إيران من قبل المنظمات الإرهابية خلال السنوات السابقة، لا يبدو أنه كان ناتجا عن عجز من قبل التنظيمات الإرهابية عن تنفيذها داخل إيران، فالأقرب إلى المنطق هو أن تقاطعا في المصالح أو نظاما من الأولويات جعل إيران خارج دائرة الاستهداف، وربما ما طال إيران اليوم هو أن السياسة التي اعتمدتها القيادة الإيرانية في التعامل مع المنظمات الإرهابية، ثمة من التقطها ومارس نفس السياسة ضدها، وأراد في نفس الوقت أن يقول إن من استطاع خرق الإجراءات الأمنية الإيرانية بالشكل الذي رأيناه لم يكن عاجزا في السنوات الماضية عن تنفيذ عمليات إرهابية لا تحتاج لمثل هذا التخطيط.
على أن البعض من المحللين العرب ذهب إلى اعتبار هذه العملية الإرهابية الأخيرة من تدبير النظام الإيراني نفسه، وهذا احتمال لكن ما يضعف من قوته هو أن هذه القيادة لا يمكن أن تغامر بعمل أمني يجعل هيبتها الأمنية أمام خرق من الصعب تبريره، خصوصا أننا نتحدث هنا عن دولة يشكل فيها العنصر الأمني وهيبته مصدر قوة السلطة ونفوذها داخل إيران وخارجها.
يبقى أننا إزاء ما جرى في إيران خلال الأسبوع الماضي أمام الرواية الإيرانية الرسمية لمجريات الأحداث من طبيعة الخرق الأمني الذي جرى، ولجهة طبيعة المواجهات وهوية المنفذين للعملية ولعملية الانتقام التي قامت بها المخابرات الإيرانية، لكن ذلك وإن انطوى على نوع من إدارة أمنية وإعلامية وسياسية أرادت قيادة إيران أن تقول من خلالها إنها نجحت في الرد سريعا من دون أن تؤكد إن كان الرد الإيراني انتهى عند هذه الحدود أم لا.
لكن لا شك أن القيادة الإيرانية لا يمكن أن تنظر إلى ما جرى باعتباره غمامة صيف عابرة، وهو ما سيفرض عليها أن تعيد رسم نظام أولوياتها في السياسة الخارجية انطلاقا من أنّ لعبة استخدام الأقليات سيف ذو حدين، فكما أن إيران استطاعت أن تخترق المنطقة العربية عبر الهوية الإثنية أو المذهبية، فإنّها باتت بعد العمليتين الإرهابيتين الأخيرتين معنية بأن تأخذ في عين الاعتبار أنها يمكن أن تكون ضحية تدخلات خارجية بعنوان حقوق الأقليات في إيران.
وهو ملف إذا ما فتح سيجعل إيران أمام فصل من فصول انتقال الصراع إلى أرضها، وهو ما نجحت السياسة الإيرانية في تفاديه داخل إيران وبرعت في اعتماده ضد كل من خاصمها أو وقف في وجه طموحاتها داخل الدول المحيطة بها وعلى امتداد المنطقة العربية على وجه الخصوص.