غير أنّ ما بات مهمّاً اليوم داخل الوسط هو إجراء مراجعة لأسرار تلك الحقبة التي كانت فيها ازمة قانون الانتخاب جدّية، وكانت فيها كواليس الأطراف تحتسب للأسوأ وتضع خطط مواجهة إمكانية دخول البلاد فراغاً يطرح مصير مجلس النواب، وطريقة مواجهة هذا الامر.
ككل مرّة يواجه فيها الثنائي الشيعي تحدّياً ذا صلة بمكانة الشيعة داخل المعادلة السياسية العامة، يطفو على سطح المفردات المتداوَلة عبارة «أبو مصطفى»، وهي كنية الرئيس نبيه بري التي تصبح في الأزمات شائعة على ألسنة قادة «حزب الله» الكبار، وداخل وسط شيعي نافذ، يتشكّل من رجال اعمال واطباء ووجهاء، وهؤلاء ليسوا من داخل جسم حركة «أمل»، ولكنهم لصيقو الصلة بـ «الأستاذ»، وهي كنية «أبو مصطفى» الأخرى التي تشيع في الأزمات ايضاً.
وفي مقابل كنية «أبو مصطفى» تصبح عبارة «أبو هادي» متداوَلة أيضاً في كواليس حاملي الرسائل بين حارة حريك وعين التينة، وذلك في اللحظات الصعبة والتي تحتاج الى تنسيق موقف مواجهة بين الثنائي الشيعي، وإخضاع هذا الحلف لإختبار قدرته على اتّخاذ فعل سياسي نوعي في مواجهة تحدّياتٍ استثنائية..
وتُعتبر منازلة «أبو مصطفى» الأخيرة مع العهد والوزير جبران باسيل وموقف «حزب الله» منها، بمثابة محطة مهمة في تجربة الثنائي الشيعي، تمّ خلالها تنشيط الصلات الاستثنائية بين طرفَي هذا الثنائي، وكلّ هذه الأنشطة تفاعلت في الظل وبعيداً من الأضواء.
خشي بري أن يتبع «حزب الله» تجاه آخر اشتباكه السياسي مع التيار الوطني الحر، الموقف ذاته الذي كان نصر الله انتهجه تجاه موقفه الرافض السير في ترشيح عون لرئاسة الجمهورية. وهو موقف اتّسم بمراعاة موقف بري وعدم المَسّ بترشيح عون. كان «أبو مصطفى» في حاجة الى تأكيد الحزب أنّ هذه المنازلة مختلفة ولا تحتمل نصف موقف منه.
وخلال هذه الفترة التي شكلت عزّ أزمة بري مع باسيل، تمّ تداول فكرة أنّ الوقت حان للقاء بين بري والسيد حسن نصرالله لإجراء إعادة مراجعة لمجمل ما يجب أن يكون عليه الموقف الشيعي تجاه مستجدات تفلّت الساحة الداخلية من عقال معادلاتها المستقرة، والتي تُنبئ بانقلابات سياسية تجرى في داخلها. هذه الفكرة كانت مطروحة بقوة أكثر داخل وسط عين التينة.
لكنّ لقاء بري ـ نصرالله لم يحصل، وبدلاً منه استعاض نصرالله بتكليف نائبه الشيخ نعيم قاسم نقلَ رسالة تطمين من الحزب الى بري مفادها أنّ «أبو مصطفى أوّل خطوطه الحمر وآخرها»، وأن ليس قبله أحد ولا بعده أحد. وأنّ مَن يحلم في لبنان بإخراج بري من المعادلة، أو إضعافه، فهو واهم، وأنّ الحزب سيتصدّى له بقوة.
وتؤكد مصادر يُعتَد بها في الحزب أنّ نصرالله كان جدّياً في التحذير من أنّ عدم حلّ أزمة القانون الانتخابي العتيد سـيأخذ البلد الى خطر الانهيار، وهو لم يطلقه من باب التهويل. وتكشف هذه المصادر أنّ قيادة الحزب وضعت فعلياً أكثر من سيناريو أو «خطة عمل» لمواجهة النتائج السياسية التي ستنتج عن عدم التوافق على قانون الانتخاب، وعلى رأسها حالة الفراغ في مجلس النواب.
أحد هذه السيناريوهات هو استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة، ومعهم يستقيل أيضاً وزير تيار «المردة» ووزير آخر مسيحي يسمّيه الحزب «الوزير الملك» المخفي داخل حكومة الرئيس سعد الحريري، وله المهمة نفسها التي كانت للوزير الملك عدنان السيد حسين في حكومة الحريري التي تمّ إسقاطها مطلع عام 2011.
سيناريو آخر وهو تقديم الدعم السياسي الكامل لفتوى بري الدستورية التي استوردها من باريس ومؤدّاها أنّ حلّ مجلس النواب في زمن الطائف يحتاج الى قرار يتّخذه مجلس الوزراء، وهو أمر لم ولن يتوافر، وأنّ استمرار عمل المجلس وعمل هيئة المكتب الرئاسي يحتّمه عدم الفراغ في المؤسسات العامة.
لم تشتمل سلّة خطط «حزب الله» على استخدام الشارع وتكرار سيناريو «القمصان السود»، لأنّ هذه الأفكار لم تعد مناسبة، وحتى لم يعد يحتاجها الثنائي الشيعي في لبنان لإعتقاده أنّ إنجازاته السياسية اصبحت راسخة ولا يمكن أيّ طرف القفز فوقها. بل على العكس من ذلك فإنّ نظرية الحزب في مواجهة اسوأ الاحتمالات تقوم على تجنّب استخدام الشارع، سواء منه أو من الأطراف الأخرى.
خلاصات الاستنتاج العميق في هذا المجال تقع في ثلاثة أمور:
• أولاً، أنه لو حدثت مواجهة كسر العظم بين العهد وبين بري، فإنّ الحزب لن يتردّد في خوض هذه المعركة مع بري كتفاً الى كتف، وتحت شعار أنّ «أبو مصطفى أوّل الخطوط الحمر وآخرها».
• ثانياً، «حزب الله» لا يزال يضع حتى اللحظة على الطاولة، خططَ مواجهة الاحتمال السيّئ الناتج عن عدم التوصل الى قانون انتخاب، والذهاب الى حالة فراغ.
• ثالثاً، «حزب الله» مصمِّم على انتهاز فرصة النسبية لدعم إيصال حلفاء له من خارج الطائفة الشيعية الى مجلس النواب.