في الذاكرة العربية إشتباه دائم ، يقرب في بعض الاحيان من اليقين، بأن تسييس الاسلام وتحويله الى أداة ثم الى سلاح، لم يكن يوماً وليد مبادرة من المسلمين أنفسهم بل كان إستجابة لتوجيه وتدبير قوى من خارج الاسلام او من هوامشه، مثل البريطانيين والالمان في حقبة ما ، ثم الاميركيين في بقية الحقب التاريخية، بدءاً من الحرب الباردة مع السوفيات وصولا الى تنظيم القاعدة، مروراً بالثورة الايرانية الخمينية في مراحلها الاولى.
هذا الاشتباه لا يستثني حركة "حماس"الفلسطينية نفسها ، برغم ان ورثت الصراع مع العدو الاسرائيلي بشكل شرعي، بعد إنهيار التجربة الوطنية الفلسطينية التي ولدت من رحم الهزيمة العربية، التي كانت "حماس" واحدة من علاماتها، بقدر ما صارت واحدة من آخر مظاهر ديمومة ذلك الصراع ، بالحدود الدنيا التي تتيحها موازين القوى المختلة لمصلحة الاسرائيليين.
لم تكن تجربة "حماس" ، باهرة لا في إدارتها الشأن الداخلي الفلسطيني والعلاقة مع منظمة التحرير ولا مع بقية القوى الوطنية الفلسطينية، ولم تقدم في قطاع غزة نموذجاً سياسيا واجتماعياً مميزاً يمكن أن يضاف الى رصيدها كقوة سياسية تتصدر الصراع الاهم والاخطر في تاريخ العرب الحديث. كان العدوان الاسرائيلي الذي لم يرحم القطاع يوما سبباً في هذا الخلل العميق في تجربة "حماس"، لكن ثمة مصادر أخرى لذلك الخلل تتمثل في تكوين الحركة وفي خطابها وفي برنامجها الاسلامي، الذي هو بالتعريف برنامج ما دون وطني.
مع ذلك، فإن الحركة لا يمكن ان تحاسب كما بقية الحركات الاسلامية، ليس فقط لأنها تقف على الحدود مع العدو، وتحرمه من العودة الى قطاع غزة، وتفرض عليه التفكير أكثر من مرة قبل الاقدام على أي عمل عسكري ضد الفلسطينيين في أي بقعة من الارض الفلسطينية.. بل لأنها تتمتع بميزة خاصة لطالما حرصت على الاحتفاظ بها ، وهي أنها لا تعترف ولا تقيم أي إعتبار لأي أهداف تقع خارج أرض فلسطيني أرض الصراع مع العدو الاسرائيلي.
وهي ليست مجرد ميزة، بل لعلها إستثناء خاص جداً بالمقارنة مع بقية الحركات الاسلامية ، الفلسطينية منها وغير الفلسطينية طبعا التي تتفاوت درجات إنخراطها في الصراع مع العدو بحسب الحاجة، بحيث يمكن الاستنتاج بأن الغالبية الساحقة من تلك الحركات غير معنية أبداً بذلك الصراع ، وإن كانت قد نافقت الجمهور العربي والاسلامي في بعض المراحل والظروف برفع شعار فلسطين. والأمثلة لا تقتصر على تنظيم القاعدة ولا على فروعه وإنشقاقاته الاخيرة مثل النصرة أو داعش. ثمة شرائح واسعة من "المجاهدين" الذين لا يخطر في بالهم مقارعة العدو الاسرائيلي، عدا طبعا عن أن بعضهم يعمل لحساب الموساد الاسرائيلي وغيره من أجهزة الاستخبارات الاميركية والغربية.
حركة "حماس" ، بهذا المعنى هي أكثر من إستثناء، لعلها ضرورة لكشف زيف بقية التنظيمات الاسلامية، بما فيها "حزب الله" الذي يلقي خطاباً مقاوماً بالغ الحدة والضراوة ، لا يتناسب مع حقيقة ان غالبية عملياته العسكرية والامنية صارت تجري خارج ميادين الصراع مع العدو، بل وحتى خارج حسابات ذلك الصراع وأهدافه المباشرة..فضلا عن أن تورطه في حروب سوريا والعراق واليمن بالآلاف من مقاتليه لا يمكن بأي حال من الاحوال أن يندرج في إطار تعزيز خطوط المواجهة مع الاسرائيليين.
لعل حركة "حماس" هي بالفعل آخر تنظيم إسلامي يتفرغ بالكامل للصراع مع العدو الاسرائيلي، ويخصص له جميع الامكانات والطاقات والموارد، وينعزل بشكل حاسم عن بقية الحروب والصراعات والمحاور الخارجية، ويحمي نفسه من وباء الارهاب الذي يخطف الاسلام ويعرض المسلمين لمخاطر لم يسبق لها مثيل في التاريخ الاسلامي.
ولهذا السبب خاصة، تبدو حملة المحور الخليجي المصري على قطر وعلى "حماس"بالذات، أكثر من ظالمة، ومشبوهة، وأبعد من كونها خدمة مجانية للعدو.