وفي تموز من عام 2007، خضع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن لجراحةٍ استئصلت 5 أورامٍ حميدةٍ بعد إجرائه لعملية تنظير قولونٍ روتينية. وربما مرَّ ذلك اليوم عادياً في صفحات التاريخ، لكنَّه لم يكن عادياً بالنسبة لأميركا نظراً للواقعة نادرة الحدوث في وقتها والتي استدعت الرجوع لتعديلٍ دستوري يشرح كيفية انتقال السلطة لنائب الرئيس في حالات عجز الرئيس عن أداء مهامه، وفق تقرير لصحيفة "غارديان" البريطانية. ولمدة 125 دقيقة استغرقها بوش للدخول والخروج من حالة التخدير الموضعي وتناول طعام الإفطار وإظهار حيازته لكامل قواه العقلية، سيطر نائب الرئيس ديك تشيني على جميع السلطات الرئاسية.
وقبل حتى أن يُعلن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، الإثنين الماضي، أنَّ التحقيقات جارية في التواطؤ المحتمل بين حملة ترامب وموسكو خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2016، أصبحت القواعد الحاكمة لنقل سلطات الرئاسة، أو إبطالها، في حالات ارتكاب الجرائم أو الطوارئ موضع اهتمامٍ جديدٍ ومكثف في الولايات المتحدة.
بدأ التهامس بشأن العزل، وهو الإجراء الدستوري الأشهر لإزاحة الرئيس الأميركي من منصبه، يسود الأجواء قبل حتى أن يؤدي ترامب القسم الرئاسي. لكن بعد شهرين من رئاسة ترامب، تحوَّل هذا التهامس، والبحث عن أي مخرج طوارئ لترامب من تلك الأزمة، إلى حديثٍ مفتوح تجاوز حيز أحلام يقظة أعضاء الحزب الديمقراطي. حتى أنَّ ماكسين واترز، إحدى نائبات الكونغرس النافذات في الحزب الديمقراطي، كتبت على تويتر: "استعدوا للعزل" بعد إعلان مكتب التحقيقات الفيدرالي المُفاجئ. وتسببت قصة ترامب مع روسيا في خلق فيضانٍ من التكهنات عما إذا كنَّا أمام فضيحة جديدة مشابهة لفضيحة ووترغيت الشهيرة، التي بدأت باقتحام مكاتب الحزب الديمقراطي داخل فندق ووترغيت عام 1972، وتسببت في إزاحة الرئيس ريتشارد نيكسون من منصبه بعدها بعامين، وهي الحادثة الوحيدة التي استقال بسببها رئيسٌ أميركي.
وفي مؤتمرٍ صحافي وأداءٍ فني مبهر استمر 77 دقيقة في شباط الماضي، أنكر ترامب وجود أي علاقةٍ مشبوهة بينه وبين موسكو، والتي خلُصَت وكالات الاستخبارات الأميركية إلى أنَّها تلاعبت بالانتخابات الرئاسية لصالح ترامب. وقال الرئيس: "لا علاقة لي بروسيا. كما قلتُ لكم، لم أعقد صفقاتٍ هناك، ولا يوجد أي شيء". لكن حجم الادِّعاءات وتحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي تمتلك أرضيةً قويةً ودلالاتٍ واضحة. وهناك أمورٌ أخرى قد يتم إزاحة ترامب بسببها من مقعد الرئاسة. إذ حصلت حملةٌ تُطالب بعزل ترامب نتيجة ادعاءاتٍ تتهمه بانتهاك الحظر الدستوري الذي يمنعه من تلقي هدايا بعينها، وهي المشكلة النابعة من عدم تخلي الرئيس عن شركاته العقارية وفنادقه وعلاماته التجارية، على أكثر من 875 ألف توقيعٍ على الإنترنت في شهرٍ واحد، وفقاً لمُنسق الحملة جون بونيفاز.
وفي سيناريو آخر، كما ينص التعديل الـ25 بالدستور الأميركي، والذي استند إليه بوش عند تسليم السلطة لتشيني، يُمكن لنائب الرئيس بالتنسيق مع أغلبية أعضاء الإدارة الأميركية أن يُعلن أنَّ الرئيس غير قادر على أداء مهامه. وهذا السيناريو هو الأشهى بالنسبة لذواقة المؤامرات السياسية، على الرغم من أنَّ هذا التعديل لم يسبق استخدامه لإزاحة رئيسٍ عن السلطة دون إرادته.
إذاً ماذا يُخبرنا تاريخ عزل رؤساء الولايات المتحدة عن الطريق الذي ستسلكه الأحداث من الآن فصاعداً؟ من عُزل من الرؤساء الأميركيين في السابق؟
هناك رئيسان أميركيان عُزِلا في التاريخ الأميركي، وهما بيل كلينتون (عام 1998) وأندرو جونسون (عام 1868). (ويُمكن للكونغرس أيضاً أن يعزل القضاة). وسبق تمرير مواد العزل ضد ريتشارد نيكسون كذلك عن طريق لجنةٍ من الكونغرس، لكنَّ نيكسون استقال من منصبه قبل أن يتمكن مجلس النواب من التصويت على الأمر، وهو ما يعني عملياً أنَّه لم يُعزل. ولا يعني العزل إزاحة الرئيس مباشرةً من منصبه. فوفقاً للدستور، يحدث العزل في مجلس النواب إذا وافقت الأغلبية على استخدام مواد العزل التي وافقت عليها مسبقاً لجنة الكونغرس. ومن ثم يُمرَّر العزل إلى مجلس الشيوخ، حيث يجب أن يوافق ثلثا المجلس على إدانة الرئيس، وبعدها يتم عزله من منصبه. وعُزل كلٌ من جونسون وكلينتون أمام مجلس النواب، لكن مجلس الشيوخ قام بتبرئتهما وظل كلٌ منهم في منصبه.
ما الأسباب التي تؤدي إلى عزل الرئيس الأميركي؟
وفقاً للدستور: "الخيانة والرشوة والجرائم والجنح الكُبرى". ولا حاجة للقول إنَّ هناك الكثير من الجدل حول معاني هذه المصطلحات. واتُّهم جونسون بمخالفة القانون بعد أن أزاح وزير الحرب الأميركي من منصبه، وهو القرار الذي لم يحق له كرئيس أن يتخذه في أعقاب الحرب الأهلية. أما كلينتون فقد اتُّهم بعرقلة سير العدالة وشهادة الزور، بعد مزاعمٍ بكذبه تحت القسم أمام محكمةٍ فيدراليةٍ كُبرى عن علاقته بمونيكا لوينسكي.
وفي حال عدم استقالة نيكسون، كان من الممكن إدانته أمام مجلس الشيوخ بتهمةٍ من ثلاث: عرقلة سير العدالة، أو إساءة استخدام السلطة، أو تحدي قرار المحكمة باستدعائه. وعلى كل حال، أصدر الرئيس جيرالد فورد، نائب الرئيس في حكومة نيكسون وخليفته، قراراً بالعفو عن نيكسون بعد شهرٍ من استقالته عن أي جرائمٍ ارتكبها.
هل يُمكن إزاحة الرئيس من منصبه بوسيلةٍ غير العزل؟
نظرياً، نعم، وذلك بموجب التعديل الـ25 المذكور أعلاه، والذي تم التصديق عليه مؤخراً عام 1967 لحل مشاكل الخلافة التي أصبحت مُلِحَّةً بعد اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي.
ويصف التعديل الـ25 عمليةً تُمكِّن الرئيس من التخلي عن منصبه نتيجة عجزه عن القيام بمهامه (مثل حالة الأورام الحميدة التي أُصيب بها بوش)، وعمليةً أخرى يُمكن من خلالها إزاحة الرئيس من السلطة نتيجة الإعاقة أو عدم القدرة على تنفيذ مهامه. وفي الحالة الثانية، يُصبح المتحكمون هم: نائب الرئيس و15 مسؤولاً بارزاً من الإدارة الأميركية. وفي حال اتفق نائب الرئيس ومعظم أعضاء الإدارة على كون الرئيس "غير قادرٍ على الاضطلاع بمهام وواجبات وظيفته"، يقومون بتقديم هذه المعلومات كتابةً إلى رئيس مجلس النواب (بول رايان حالياً) ورئيس مجلس الشيوخ المؤقت (أورين هاتش حالياً، عضو مجلس الشيوخ الجمهوري من يوتا)، وبهذا يتحول نائب الرئيس إلى قائمٍ بأعمال الرئيس.
ويُمكن للرئيس الطعن على القرار، وفي هذه الحالة يجب الحصول على أصوات الأغلبية، وهي ثلثا الأعضاء في مجلسي النواب والشيوخ بالكونغرس، لمنع الرئيس من استعادة منصبه. ومن المتوقع أن يرفض ترامب المغادرة في صمت في حال قررت إدارته ونائبه مايك بينس التحالف ضده.
كم تستغرق إجراءات العزل؟
لا توجد وقائع سابقة تكفي لتحديد ذلك، لكن قضية كلينتون تحركت داخل الكونغرس بسرعةٍ نسبية في حوالي 3 شهور. لكن هذا المثال ربما يكون مضللاً بعض الشيء نتيجة التحقيقات التي دامت سنوات بشأن بيل وهيلاري كلينتون، التي تلتها قضية العلاقة غير المشروعة بلوينسكي التي حقق فيها القاضي الخاص كينيث ستار. إذ قام ستار بتقديم تقريره وبحثه للجنةٍ قضائية بمجلس النواب، وبالتالي لم تُصبح اللجنة بحاجةٍ إلى إهدار الوقت في فتح تحقيقٍ جديدٍ خاص بها.
من يرى أنَّه يجب عزل ترامب؟
مبدأياً، حوالي 46% من الأميركيين الذين شاركوا في استطلاع رأي أجرته إحدى مؤسسات استطلاع الرأي الشهر الماضي يريدون عزل ترامب. والرأي العام مهمٌ لحدوث العزل، إذ إنَّ الأمر في يد الكونغرس، وأحياناً يبني نوابه المنتخبون مواقفهم على استطلاعات الرأي. ومن الملاحظ أنَّ نيكسون، الذي كان ينتمي للحزب الجمهوري، واجه عملية العزل داخل كونغرس يُسيطر عليه الحزب الديمقراطي، أما كلينتون فقد تعرض للعزل على يد كونغرس يُسيطر عليه الجمهوريون. وليتم عزل ترامب، سيتعيَّن على أعضاء حزبه أن ينقلبوا ضده.
لهذا فإن تأييد القاعدة الجمهورية لترامب مهمٌ للغاية. فإذا لم يتخل الناخبون الجمهوريون عن الرئيس، فمن المُرجَّح ألا يتخلى عنه نواب الكونغرس الجمهوريون أيضاً.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ الكونغرس الجمهوري قد يضطر للتحرك من أجل التخلص من ترامب في مقابل شخصٍ أكثر سهولةً في التعامل: مايك بينس، الذي كان نائباً سابقاً في الكونغرس وواحداً من المحافظين التقليديين الذين يُمكن توقع تصرفاتهم.
ما التُهم التي يُمكن أن يُدان بها ترامب؟
يرى بونيفاز، من مجموعة "اعزلوا ترامب الآن" التي تجمع التوقيعات، إنَّ امتناع ترامب عن التخلي عن حيازة أعماله التجارية يشكل بالفعل انتهاكاً للقواعد الدستورية المتعلقة بالهدايا والرشاوى. والتحقيقات في العلاقة بين روسيا وترامب أو مساعديه من الممكن أن تتسبب في اتهامه بعدم الولاء. وإذا اضطر ترامب في وقتٍ من الأوقات لتقديم شهادته، فربما يواجه تهمة شهادة الزور على غرار كلينتون. وربما تهمٌ أخرى مثل إساءة استخدام السلطة؟ وعرقلة سير العدالة؟ هذا ما سيكون عليه الأمر إذا وصل الكونغرس إلى حد إدانة ترامب، إذ سيصبح بحوزتهم قائمةٌ طويلة من الاتهامات ليختاروا منها.
(هافنغتون بوست)