ورغم أن باريس تعي أن تأثيرها في مجريات الأمور محدود، فإن دبلوماسيتها ما زالت تنشط في كل الاتجاهات امتداداً للاجتماعات التي عقدها الرئيس إيمانويل ماكرون مع رئيسي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا ومع قادة آخرين، أكان ذلك في بروكسل أو في صقلية أو في العاصمة الفرنسية. وتقول مصادر رسمية فرنسية تحدثت إليها "الشرق الأوسط"، إن مجموع هذه الاتصالات "وفر لفرنسا رؤية أكثر دقة لما تريده العاصمتان الرئيسيتان في سوريا ولهامش التحرك المفتوح أمام باريس".
بداية، تشير المصادر الفرنسية إلى أن "نقطة الانطلاق" بالنسبة لواشنطن هو احتواء النفوذ الإيراني ومواجهته وإضعافه في سوريا، لكن مشكلتها أنها "حتى الآن لم تُبلوِر سياسة متماسكة تبين رؤية واضحة لما تتمسك به ولما تعتبره غير معنية به في سوريا".
ولذا، تؤكد المصادر أن الرئيس ترامب والطاقم السياسي الذي يعمل معه في البيت الأبيض "يعولان كثيراً على دور لروسيا من أجل إزاحة النفوذ الإيراني"، وبالتالي فإن الرئيس الأميركي، رغم الصعوبات الداخلية التي يعاني منها، التي في جزء كبير منها متصلة بدور روسي مفترض في الانتخابات الرئاسية الأميركية، "يريد التوصل إلى اتفاق مع بوتين حول سوريا". لكن بالمقابل، يواجه هذا المسلك معارضة جنرالات البنتاغون الذين "لا يثقون بروسيا ولا بالرئيس بوتين، وبالتالي فإنهم يفرملون أية اندفاعة نحو اتفاق أو تعاون وثيق" مع موسكو. فضلاً عن ذلك، فإن ثمة نقطة خلافية أخرى داخل الإدارة حيث تلحظ باريس وجود تيارين: الأول، يمثله ترامب الذي يريد، إلى جانب احتواء إيران وإضعاف نفوذها، إخراج الأسد من السلطة، بينما الثاني وتمثله ما يسمى "الدولة العميقة" في وزارتي الدفاع والخارجية يعتبر أن تنحية الأسد "لا يجب أن تكون أولوية أميركية"، بل التركيز على القضاء على "داعش"، وترك موضوع الأسد لـ"مرحلة لاحقة" يرفض المسؤولون الأميركيون تحديد سقف زمني لها.
في الجانب الروسي، تعتبر باريس أن صعوبة استكناه الموقف الروسي مردها إلى أن بوتين "يرفض اليوم الكشف عن أوراقه وعما ينوي تقديمه من أجل تسهيل الحل في سوريا، لأنه يريد اتفاقاً شاملاً مع واشنطن". والحال، كما تقول المصادر الفرنسية، أن الكرملين "سمع الكثير" عن رغبة ترامب في التقارب مع روسيا. إلا أنه لا شيء حسيّاً حصل حتى الآن، وبالتالي فإن موسكو "مستمرة في إدارة الحرب في سوريا وفي تجميع أوراقها بانتظار اللحظة التي تبدأ فيها المساومة الحقيقية".
وتصف المصادر الفرنسية المرحلة الدبلوماسية الحالية فيما خص سوريا بـ"المائعة"، وترى أنها سوف تطول "ما دام اللاعبون الدوليون لم يكشفوا عن مطالبهم وخططهم"، وأن الاهتمام منصبّ على التطورات الميدانية التي سيكون لها الدور الحاسم في رسم صورة ما سترسو عليه سوريا مستقبلاً. وتعتبر باريس أن السؤال "المركزي" هو التالي: ما الثمن الذي تقبل واشنطن بتقديمه للرئيس الروسي، وأين، مقابل تسهيله الحل في سوريا الذي يفترض أن يتم التفاهم عليه بينهما بما في ذلك صورة النظام ودور الرئيس الأسد فيه؟ والحال، تقول المصادر الفرنسية إن هذه المناقشة "لم تبدأ بعد".
في الاجتماع الذي ضمه إلى نظيره الروسي في قصر فرساي، عبر الرئيس الفرنسي عن رغبته في أن "يلعب دوراً" في الأزمة السورية، وطرح على بوتين رؤيته المستندة إلى "تجميد النزاع" القائم بين المعارضة والنظام، وتكريس الجهود لمحاربة "داعش"، وتوثيق التعاون الروسي الفرنسي في هذا المجال، والبحث جدياً عن حل سياسي يوفر الظروف لعملية انتقال لم تعد باريس تطالب أن يكون الأسد خارجها. كذلك شدد ماكرون على إيصال المساعدات الإنسانية من غير تمييز وأخيراً معالجة الأسباب التي ما زالت توفر لـ"داعش" قدرة على الاستقطاب. وأشار ماكرون، وفق المصادر الفرنسية، إلى أن باريس مستعدة مع أوروبا للعب دور لاحق في تعبئة الأطراف القادرة على المساهمة في إعادة الإعمار، وهو ما لا تستطيع إيران أو روسيا القيام به. وفي أي حال، تعتبر باريس أنه "لا سلام جدياً في المنطقة يمكن أن يقوم فقط على تفاهم روسي تركي إيراني، بل يجب أن يشمل الجميع" وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الخليجية ومصر.
هل ستفلح الدبلوماسية الفرنسية "الجديدة" في تحريك الأمور؟ الواضح أن الرئيس الجديد يريد إحداث تغيير، ولا يقبل أن تبقى بلاده متفرجة بينما هي معنية كما البلدان الأوروبية الأخرى بمصير منطقة الشرق الأوسط، أقله من زوايا الإرهاب والهجرات والاستقرار الإقليمي. لكن الرغبات شيء والوقائع والحقائق وموازين القوى شيء آخر.
(الشرق الأوسط)