بعد أن كانت المنطقة الصحراوية الوسطى والجنوبية في سوريا (البادية) نائية لا تحظى باهتمام الأطراف المحلية المتصارعة على مدى السنوات الست، أصبحت الآن ميدان أهم معركة ترسم خارطة النفوذ الإقليمي والدولي لمستقبل سوريا.
بدأ الصرع على البادية بعد أن استقرت الاشتباكات في منطقة غرب سوريا التي شهدت معارك دامية بين الأطراف السورية مدعومة بميليشيات مساندة لها. ولم تحتل استعادة البادية سلّم أولويات النظام قبل الأشهر القليلة الماضية.
وحتى عام 2015، كانت مهمة الجيش النظامي تتركز بشكل أساسي على حماية المدن الكبرى ومحور دمشق- حمص- حلب الذي شكل قوام نظام الاتصالات. لكن التدخل الروسي في سبتمبر من ذلك العام أنقذ مركز النظام وعززه، مما أدّى إلى توجيه قوات الأسد اهتمامها بشكل متزايد إلى المناطق المحيطة بالمدن التي يسيطر عليها.
وكانت استعادة السيطرة والتمسك بتدمر الخطوة الأولى في استراتيجية لإعادة دخول البادية، لأن المدينة هي القاعدة الرئيسية لأي عمليات يقوم بها النظام في وسط سوريا.
ويقول فابريس بالونش، الأستاذ المشارك ومدير الأبحاث في جامعة ليون 2 في دراسة نشرها في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، إن القوات الخاصة الأميركية وفصائل الجيش الحر المدعومون من الولايات المتحدة تمركزوا في قاعدة التنف منذ مارس 2016.
ويضيف بالونش أن بشار الأسد وحلفاءه يرون أن واشنطن تريد زيادة تواجدها بشكل دائم في شرق سوريا بهدف دعم حلفائها المحليين وتقويتهم والضغط على دمشق، ومنع النظام من العودة إلى وادي الفرات.
يعكس هذا القلق المنافسة الإقليمية الأوسع نطاقا التي تحوّلت إليها الحرب مع قيام النظام وحلفائه بالتسابق من أجل إنشاء محور شيعي من الشرق إلى الغرب يمتد من إيران إلى لبنان. ويبدو أن الولايات المتحدة تتطلع إلى توطيد محور سني من الشمال والجنوب يمتد من دول الخليج والأردن إلى تركيا. وسيضطلع الوضع في منطقة البادية بدور مهم في رسم معالم هذه الديناميات، حسب دراسة بالونش.
فابريس بالونش: الولايات المتحدة تتطلع إلى توطيد محور سني من الشمال والجنوب
ويحذر جيمس جيفري، سفير الولايات المتحدة السابق لدى تركيا والعراق وألبانيا وهو زميل متميز في زمالة فيليب سولوندز في معهد واشنطن، من أنه وبينما تسحق قوات تنظيم داعش في معاقلها الأخيرة في الموصل والرقة يسارع وكلاء طهران إلى إنشاء ممر بري بين إيران والعراق وسوريا وحزب الله في لبنان، مما ينذر بتحوّل استراتيجي جغرافي استثنائي. وكما أشار مركز سياسة الحزبين مؤخرا من الممكن أن يضع هذا التحوّل نحو عشرين مليون عربي سني تحت وصاية شيعية فعلية في سوريا والعراق، الأمر الذي قد يُنتج على الأرجح تيارا سنيا متطرفا جديدا يحل محل تنظيم الدولة الإسلامية.
ويعتقد العميد الركن إبراهيم الجباوي أن إدارة ترامب تعمل على تقويض الأطماع الإيرانية في المنطقة والمتجسدة بمشروع الهلال الشيعي وحتى البدر الشيعي (كما صرح بذلك أحد قادة الميليشيات الشيعية). وزادت أطماع إيران بمحاولتها مؤخرا فتح الطريق من الحدود العراقية عند معبر التنف ليصل بدمشق ومنها إلى بيروت.
ويقول الجباوي لـ”العرب”، إن “التحالف الدولي بقيادة واشنطن لا يقبل بهذا المطمع ويعمل على تقويضه.
وتجلى ذلك بالضربة الأخيرة التي وجهتها طائرات التحالف لرتل عسكري للميليشيات الشيعية العراقية. ومؤخرا حاولت أرتال أخرى أن تعيد الكرة فكان التحالف لها بالمرصاد حيث حذرها بواسطة مناشير ألقيت من الطائرات”.
ويرى الباحث السوري محمود عادل بادنجكي أن روسيا من غير الممكن أن تساعد إيران لإنشاء محور شيعي مرورا بالبادية السورية لأسباب تخصّها.
ويقول لـ”العرب”، “لا توجد موافقة دولية على إطلاق يد إيران وبخاصّة بعد مؤتمر الرياض. لكنّ إيران حليف روسيا وقتيا حتّى تنتهي المصلحة، وهي في الميزان دائما. توضع على الطاولة وقت اللزوم”.
العودة إلى البادية
منذ الثورة السورية، عمد النظام إلى التقليل تدريجيا من سيطرة الجيش السوري على البادية، بحيث أصبحت لا تتخطى عددا قليلا من طرق الاتصال الرئيسية وموارد الطاقة.
ويُعتبر حقل غاز الشاعر ذا قيمة خاصة على صعيد توليد الكهرباء، ولذلك وضعه النظام في عهدة ميليشيا صقور الصحراء التي أسسها رجل الأعمال العلوي المقرب من الأسد أيمن جابر. وتضم هذه المجموعة 7000 رجل، معظمهم من العلويين الذين تم تجنيدهم من الساحل.
وخلال السنوات الماضية لم تستطع قوات النظام البقاء في البادية نظرا لتركيزها على معارك في غرب سوريا، وحتى عندما تخوض معارك استثنائية في البادية فإنها غالبا ما تخسرها في نهاية المطاف.
ويعتقد بالونش أن النظام كان يركز في تلك الفترة على بناء خط دفاعي من جهة الشمال والجنوب يمتد من حلب إلى السويداء يبلغ طوله 800 كلم لمنع هجمات تنظيم داعش ضد حمص أو حماة أو دمشق.
وعلى الرغم من أن السيطرة على تدمر نفسها قد تحوّلت من جانب إلى آخر أكثر من مرة منذ ذلك الحين، إلّا أن جزءا كبيرا من منطقة الصحراء لا يزال خارج نفوذ الأسد.
محمود عادل بادنجكي: روسيا لن تساعد على إنشاء محور شيعي في المنطقة مرورا من البادية السورية
ومع إعادة ترتيب الأولويات لكل من المعارضة والنظام بعد أن دخلت الهدنة حيّز التطبيق في ما بينهما في غرب البلاد، بدأ كل طرف من الأطراف السورية بدعم من حلفائه الدولية التركيز أكثر على شرق البلاد.
الوضع الميداني العسكري يظهر حالة من تقاسم البلاد قائمة بحكم أمر الواقع. ولا يعتقد بادنجكي “أنّ التقاسم هو جغرافيّ، بل هو مناطق نفوذ محكوم بشروط الواقع تمتدّ لأمد ريثما تبلور موازين القوى ترجيحاتها في اللعبة الدولية حول سوريا”.
وفي شرق وسط البلاد وجنوبها، قامت فصائل الجيش الحر بمنع عودة النظام إلى هذه المناطق، حيث قام المئات من المقاتلين المعارضين بعبور الحدود من الأردن بدعم من التحالف الدولي وسيطروا على التنف، وذلك بعد أن تم تدريبهم من الجانب الأميركي والبريطاني خارج البلاد.
وتقدمت فصائل مقربة من الجيش الحر في منطقة القلمون الشرقي نحو البادية وطردت داعش من تلك المناطق استباقا لأي محاولة من النظام لدخول البادية من هناك.
ويقول بالونش إن فصائل الجيش الحر في التنف تسعى إلى الحصول على موطئ قدم في وادي الفرات إلى الشرق، لأن معظمهم ينحدرون من تلك المنطقة.
ويشكل الهاربون من الجيش السوري النواة الداخلية لفصائل الجيش الحر في تلك المنطقة كـ”جيش أسود الشرقية” الذي يضم منشقين عن جيش النظام تعود أصولهم إلى شرق البلاد. وقد انضم إليهم مقاتلون طُرِدوا من وادي الفرات خلال هجمات تنظيم داعش في عام 2014.
وتحاول قوات الجيش الحر بدعم من التحالف الدولي فرض سيطرتها من الغوطة الشرقية مرورا بالقلمون الشرقي وصولا إلى الحدود العراقية التنف وذلك لطرد داعش من الشرق الجنوبي ومنع النظام وحلفائه من التقدم والعودة إلى وادي الفرات.
ويشكل تقدم قوات الجيش الحر من التنف بنحو عشرات الكيلومترات تهديدا لقوات الأسد حيث استغرق النظام عدة سنوات لتطويقها.
وتتقدم قوات جيش أسود الشرقية بسرعة نحو الشمال والشرق، وقد تسيطر قريبا على السخنة، وهي واحة مهمة قرب تدمر، وكذلك بكتال، وهي مفترق طرق أنابيب النفط بالقرب من البوكمال. ويتمثل الهدف الرسمي لهذه الهجمات بالاستحواذ على مناطق تنظيم داعش ودعم قبائل الفرات للوقوف في وجه التنظيم. وإذا نجحت قوات المعارضة في مسعاهم هذا فسيوقفون عمليا هجوم الجيش السوري المتواصل نحو دير الزور.
رسائل أميركية
بعد أن أدّت الضربة الجوية الأميركية في 18 مايو إلى إبعاد القوات الموالية للنظام من التنف، أعاد الجيش السوري تركيزه على مهاجمة المعارضة من ثلاث قواعد مختلفة: دمشق وتدمر وجبل الدروز.
المعاناة مستمرة
وفي الحالة الأخيرة، تتقدّم وحدات الجيش بسرعة على طول الحدود الأردنية لتطويق أحد جيوب المعارضة، في محاولة لعزلهم على مقربة من جبل سيس. وطوال هذا الهجوم، استعاد النظام بشكل منهجي شبكة القلاع الواقعة على الطريق الحدودي الاستراتيجي. ويرى منذر آقبيق، المتحدث باسم تيار الغد السوري، أن هناك دلائل وعلى عدة مستويات بخصوص الضربة الأميركية الثانية. ويقول آقبيق لـ”العرب” موضحا أثر الضربة، “هي رسالة إلى النظام بأنه غير مسموح له العودة إلى المناطق التي سوف تحرر من داعش، بل توجد خطة أميركية لتنظيم ‘حكم’ يتألف من مجالس محليه قي تلك المناطق”.
ويضيف أن هناك رسالة ثانية “هي لإيران بأن الخط اللوجستي الجيوستراتيجي الذي تطمح له من طهران إلى بيروت مرورا ببغداد ودمشق هو أضغاث أحلام، ولن يسمح لإيران ببناء إمبراطوريتها في الشرق الأوسط”. أما الرسالة الثالثة “فهي لحلفاء واشنطن من الكتائب السورية المعارضة التي تقاتل داعش، بأنها سوف تحمي ظهرهم في وجه نظام الأسد وحلفائه بينما هم يتقدمون ضد داعش”. والرسالة الأخيرة “هي لمن يهمه الأمر ومنهم روسيا بأن المناطق التي سوف تحرر من داعش في شرق سوريا هي مناطق نفوذ أميركي غربي وعلى روسيا أن تكتفي بغرب سوريا كمنطقة نفوذ لها”.
وأعلن الجيش الروسي أن روسيا أطلقت من غواصة وفرقاطة في البحر المتوسط عدة صواريخ عابرة من نوع كاليبر على أهداف لتنظيم داعش قرب تدمر في البادية السورية.
ويؤكد الجباوي أن الصواريخ التي أطلقتها روسيا من البحر باتجاه البادية كانت موجهة ضد فصائل الجيش الحر هناك والتي تسيطر على تلك المنطقة وقد تذرعت روسيا بأنها أطلقتها ضد داعش علما أن الجميع يعلم بعدم وجود داعش هناك.
ويضيف الجباوي أنه “من الممكن أن تحمل الصواريخ الروسية رسالة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة مضمونها أن روسيا موجودة وتبحث عن حصتها في المنطقة وهذا أيضا ما لم يقبل به التحالف لأن الدور الروسي قد انحصر بمساندة الأسد بعد أن أظهر عدم جديته برعاية العملية السلمية ومحاولة روسيا تحويل جنيف إلى أستانة لتتمكن من فرض الحلول التي تناسب مخططاتها”.
بينما تعمل قوات الجيش الحر بالتقدم من الجنوب الشرقي إلى الشمال الشرقي لتلاقي قوات كردية مدعومة من التحالف الدولي في محاولة للإطباق على الهاربين من داعش سواء في الرقة أو دير الزور، حيث تتواجد قوات كردية مدعومة من التحالف الدولي في شرق شمال البلاد تسعى إلى تحرير الرقة حاليا وبنفس الوقت تعمل مع القوات الاميركية لمنع أي محاولة إيرانية لربط البلاد بإيران عبر العراق.
وحذّر الناطق الرسمي باسم قوات سوريا الديمقراطية (التي تعتبر أغلبها كردية) طلال سلو ميليشيات الحشد الشعبي العراقية من دخول الأراضي التي تسيطر عليها القوات في محافظة الحسكة شرقي سوريا.
وكان القيادي في الحشد الشعبي أمين عام منظمة بدر هادي العامري قال إن قوات الحشد ستتقدم باتجاه مدينة القائم العراقية المقابلة لمدينة البوكمال في ريف دير الزور الشرقي على الحدود السورية العراقية، الأمر الذي يجعلها في مواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على ريف محافظة الحسكة الجنوبي الشرقي.
وردّ قائد الأسايش في قوات سوريا الديمقراطية جوان إبراهيم، معلنا أن قواته “ستقاوم الحشد الشعبي العراقي في حال عبر الحدود إلى مناطق سيطرتها، لافتا إلى أنهم “لن يقبلوا وجود إيران، ولن يكونوا تحت أي ظرف من الظروف، جسرا بين الحشد العراقي والنظام الإيراني”.
وتتعاون القوات الكردية مع قوات عربية من بينها قوات النخبة السورية التابعة للجيش الحر، ويقول آقبيق إن قوات النخبة السورية “تتواجد في شمال دير الزُّور، وكذلك شرق الرقة وبالتالي لديها على الأقل جبهتان مشتعلتان مع داعش، وبعد تحرير الرقة أو بالتزامن معها سوف يتم الاتجاه لتحرير دير الزُّور من ذلك تنظيم داعش. وسوف تساهم قوات النخبة بعد التحرير بحفظ الأمن في تلك المناطق وتأمين عودة الأهالي النازحين إلى بيوتهم”.
ويرى آقبيق أنه من الممكن للمعارضة السورية بناء نموذج إيجابي وديمقراطي ومزدهر للحكم في شرق سوريا بعد التحرير من داعش في مواجهة نموذجي النظام والإسلاميين، وهذا سوف يشجع بقية الشعب السوري وكذلك المجتمع الدولي على بناء إرادة جمعية نحو إعادة توحيد سوريا بناء على النموذج الديمقراطي الناجح؛ فيما يحذّر فابريس بالونش من أنه وفي الوقت الذي يزداد فيه الوجود العسكري البري الروسي في سوريا وفقا لبعض التقارير، وتتسارع الفصائل المتعددة للاستيلاء على الأراضي السابقة لتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء، فإن هناك احتمالاً كبيراً بوقوع أخطاء، وقد تكون التداعيات الدبلوماسية والعسكرية الناتجة خطيرة.
ويرى جيمس جيفري أن البقاء في المنطقة إلى أجل غير مسمى سيتطلب ترتيبات سياسية معقّدة مع تركيا والأردن وبغداد ومختلف الفصائل الكردية والعربية السنية، وربما مع إيران وروسيا أيضاً. وأياً كانت الترتيبات التي سيتم التوصل إليها، ستحتاج إدارة ترامب أن تكون واضحة حول المخاطر: إذا لا توقف أميركا الإيرانيين على هذه الجبهة، فسيظهرون قريباً كقوة مهيمنة في المنطقة، معادين للغاية للولايات المتحدة وحلفائها .