بالنسبة إلى هؤلاء، أزمة قانون الانتخاب هي أزمة مصير: هل سيكون لبنان الموعود، بعد الحروب الأهلية العربية ورسم الخرائط الجديدة، هو نفسه الذي تمّ تثبيته بعد «اتفاق الطائف»، برعاية سورية ومبارَكة أميركية؟
أم سيعود لبنان الذي أُرسيَ في العام 1943، بناءً على صيغة مارونية - سنّية؟ أم سيولد لبنانٌ آخرُ جديدٌ، لا هذا ولا ذاك، ستقرِّره المفاوضاتُ الجارية لتقرير مصائر كل الكيانات الشرق أوسطية؟
في الأشهر التي سبقت انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، برزت ملامح «نقزة» شيعية من تقارب سنّي- مسيحي قد يؤدي إلى إحياء الثنائية القديمة، التي رافقت الاستقلال، والتي كانت موضع اعتراض أساسي للشيعة.
من أبرز الظواهر الاعتراضية أنّ الشيعة، طائفة المحرومين، كانوا الخزّان الحقيقي لليسار الاعتراضي، الرافع رايات الإصلاح، في نهايات الستينات ومطلع السبعينات من القرن الفائت، أي خلال العقد السابق لحرب العام 1975 الأهلية.
وما أن خرج الشيعة اللبنانيون من مشاعر الإحباط والتهميش، بدعم نظام الرئيس حافظ الأسد، حتى انتقلوا إلى موقع الاستقواء. فالمارونية السياسية هُزِمت، والسنّية السياسية تلقَّت ضربات متتالية، والشيعية السياسية تنمو بقوة السلاح والدعم الإقليمي.
ولعلّ المسؤولية الأساسية عن وقوع الأزمة المصيرية تكمن في سوء التدبير، وسوء النيات المتبادل في إنتاج الطائف ثم في طريقة تنفيذه وعدم التنفيذ.
اليوم، تعتقد قوى سنّية ومسيحية أنّ هناك فرصة، في خضم السعي إلى رسم مصائر الكيانات الإقليمية، لاستعادة لبنان «المتوازن».
وفي عبارةٍ أكثر وضوحاً، تدغدغ بعض السنّة مشاعر استعادة لبنان 1943. ولا يبدو معظم المسيحيين خارج هذه الصورة، مع أنهم باتوا يميلون إلى التوازن الكامل بين الجميع، نظراً إلى فقدانهم معظم الأوراق والقدرة على المبادرة، بسبب ضعفهم المتزايد وعدم ارتباطهم بأيّ تحالف إقليمي أو دولي.
وفي المقابل، يقاوم الشيعة بقوة كل المحاولات الرامية إلى انتزاع «لبنانهم» منهم. وكل نظرة إلى أزمة قانون الانتخاب خارج النزاع الطائفي- المذهبي، الذي يشكل امتداداً للصراع الإقليمي، تبقى منقوصة وعاجزة عن التفسير.
القوى السنّية والشيعية والمسيحية تتعاطى مع قانون الانتخاب من زوايا مختلفة، بل متناقضة. والقاسم المشترك بين هذه القوى هو أنها جميعاً تريد تدعيم مواقعها في السلطة التشريعية المقبلة لاستخدامها في عملية بسط النفوذ المتبادلة.
من هنا، يبدو أنّ إطالة أمد الأزمة الانتخابية ربما تكون مفتعلة، وتشارك فيها قوى فاعلة، إقليمية ودولية. فالإيرانيون أوعزوا إلى حلفائهم بأن يقاوموا المحاولات الرامية إلى عزلهم عن طهران واستهدافهم، بما في ذلك إضعاف مواقعهم في السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وفي المقابل، يجد الخصوم أنّ الفرصة سانحة لإضعاف النفوذ الشيعي الذي يترجمه عملانياً «حزب الله». ويبدو تيار «المستقبل» في صدد تحرير نفسه، إلى حدّ ما، من أسرِ «التحالف الإكراهي» الذي أرساه السوريون بين الشيعة والسنّة، والذي أدار البلد حتى وصول عون إلى السلطة.
الأدلّة إلى ذلك كثيرة منذ أن وافق الرئيس سعد الحريري على تبنّي ترشيح عون، خلافاً لرغبة الرئيس نبيه بري. وهناك مَن يطرح السؤال: لماذا فاجأ الحريري الطرف الشيعي بإعلانه عدم المشاركة في جلسة التمديد التي كان بري دعا إليها في 15 أيار، والتي كان نجاحها مضموناً لو شارك الحريري، ولكان التمديد قد مرّ كسابقتيه؟
والبعض يعتقد أنّ الحريري لم يكن في مراحل سابقة في وارد معاندة القوى الشيعية، خصوصاً أنّ مواجهته «حزب الله» كلفته الغياب عن لبنان لسنوات عدة، كما أنّ عودته إلى لبنان ورئاسة الحكومة لم تكن واردة لولا التفاهم مع القوى الشيعية، وخصوصاً مع «حزب الله» وتأمين الغطاء السياسي وغير السياسي.
في قانون الانتخاب المنتظر، الأرجح أنّ المطلوب ليس انتزاع القوة من «حزب الله» والطائفة الشيعية، بل انتزاع فائض القوة، بحيث يتعادل الجميع استراتيجياً في التركيبة الآتية.
لكنّ الأزمة تكمن في رفض «الحزب» أيَّ تنازل، لسببين:
- أولاً، لأنه اعتاد على ممارسة فائض القوة ولا يمكنه التخلّي عنها بسهولة.
- ثانياً، لأنه يخشى استدراجه إلى تنازلات اسراتيجية تنتهي باستضعافه و«الانتقام منه» سياسياً.
المتابعون يصفون صورة المواجهة بأنها خطرة و«على حدّ السيف»، ويحذّرون من أنّ رهانات العناد الجديدة والمتجدِّدة، لدى الطرفين، والتي قد تغري هذه الفئة أو تلك، قد تنتهي بكوارث مثلما انتهت سابقاتها.