كتبت ناتالي إقليموس في صحيفة "الجمهورية": "«لم يَعد البحرُ مالحاً». غزل وحيد عبر «الواتس آب» كان كفيلاً بأن يُدغدغ مشاعر إيناس (20 سنة) لكي تقتنع وتُرسل صورها وهي بملابس البحر إلى مجهول أوهَمها أنه كان معها أيام الثانوية، ليتوسّع بمطالبه لاحقاً ويطلب منها إرسال صورها وهي في السرير، إلى أن تمكن من استدراجها وملاقاتها، ليقع ما ليس في الحسبان، بذريعة «بدّي ياكي وإلّا بنشر صوَرك». يكاد لبنان يسجّل عملية ابتزاز جنسي واحدة يومياً، «تحديداً 6 شكاوى أسبوعياً»، وفق إحصاءات قوى الامن الداخلي.لم يعد الإبتزاز الجنسي عبر الانترنت مجرّد ظاهرة أو حالة موسمية، إنما تحوّل مصدَرَ تمويل لفئة من المنحرفين ينشطون بشكل عصابات وأفراد، مستفيدين من لامحدودية الفضاء الإلكتروني، ليصطادوا ضحاياهم العابرين للقارات.
«مجموعة مؤشرات تؤكّد انّ جرائم الإبتزاز الجنسي إلى ارتفاع» يُحذّر رئيس العلاقات الإعلامية في قوى الامن الداخلي العقيد جوزف مسلم في حديث لـ«الجمهورية»، موضحاً: «بدأت جريمة الابتزاز بنسبة جدّ منخفضة وبدأت ترتفع مع تطور وسائل الاتصال وما يُتيحه الانترنت من خدمات، جرائم تتّسم بالتخصص، يتفنَّن مرتكبها في ابتزاز ضحيته سواء لغايات جنسية، مادية، تأمين المخدرات... على سبيل المثال بلغ عدد عمليات الإبتزاز لجهة حيازة وتركيب صور إباحية للاطفال 169 حالة عام 2015، فيما سجّلت 223 حادثة العام 2016».
وإذا توقّفنا عند إحصاءات مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية والملكية الفكرية في وحدة الشرطة القضائية التي برزت مطلع آذار 2017 في مؤتمر «ثقافة الحوار»، الذي عقد في الجامعة الاميركية، يتبيّن أنّ عمليات الابتزاز الجنسي تزداد سنوياً، ففي العام 2015 بلغت 205، لترتفع إلى 346 عملية عام 2016، و63 مطلع العام 2017. وهنا لا بد من الاشارة إلى أنّ الاحصاءات تشمل فقط ما يتم الإبلاغ عنه والمحاضر التي تُسطّر بحق هؤلاء، بينما الواقع يُخفي عمليات كثيرة تبقى طيّ الكتمان والتعتيم بإرادة الضحية أو تحت وطأة المبتزّ.
تلميذات وقعن ضحيته
لا يُخفي مسلّم أنّ عملية ترصّد المبتزّين لا تخلو من الدقة والحساسية حفاظاً على مشاعر الضحية، ويتوقف عند حادثة ابتزاز تمّ وضع حدٍّ لها منذ مدة، فيقول: «من بين الحالات التي تمّ إنقاذها، توقيف شخص في الثلاثين من عمره إبتزّ العشرات من الطالبات القاصرات، فكان يسيطر عليهنّ بصور عادية يحتفظ بها لهنّ أخذها من حساباتهنّ الإلكترونية، فعمد إلى استغلال البعض مادياً ومنهنّ جنسياً، إلى أن خرجت إحدى الطالبات عن صمتها وتمكنّا من إنقاذ الأخريات».
كيف يتم الابتزاز؟
غالباً ما تبدأ عملية الابتزاز من مجرّد إرسال طلب صداقة عبر تطبيق إلكتروني أو مواقع التواصل الاجتماعي، «فايسبوك»، «سكايب»... ومراراً من حساب وهمي، يبدأ صاحبه بترصّد مجموعة من الضحايا المحتملين وفق طبيعة ما ينشرونه من صور عائلية، مهنية، قريبة للإباحية، ثم يعمد إلى استمالة العشرات من الضحايا في اللحظة عينها، على نحو يضمن في نهاية المطاف أنه سيوقِع بصيد ثمين. بعدها، يطلب من الضحية التقاط صور في أوضاع حميمة أو فتح فيديو ليُنفذ له حركات منافية للحشمة.
وبعد مُدة يعمد الجاني إلى ابتزاز الضحية لقاء خدمات جنسية، ومبالغ مالية، تحت طائلة نشر الصور. وفي هذا السياق، يلفت مسلّم إلى «انّ معظم الذين تمّ توقيفهم في العامين الماضيين ينتحلون صفة شابّة، فيما هم رجال في الحقيقة».
وعمّا يميّز عمل الأفراد عن العصابات، يوضح: «من يبتزّ على نحو فردي يعمل ضمن نطاق ضيق لغايات فردية جنسية، لإشباع رغباته، يصطاد ويتعمّد استدراج ضحيته وملاقاتها، فيما من ينشطون ضمن عصابات يميلون إلى تنظيم أنفسهم، توزيع الادوار في ما بينهم، ينتشرون بين لبنان والخارج، يتأنّون في اصطياد ضحيتهم التي يتعمّدون أن تكون من طبقة اجتماعية مرموقة وحساسة، كرجل دين، رجل أعمال، سياسي... وذلك لغايات احتيالية يحققون مقابلها أرباحاً مالية».
سرعة التبليغ
تختلف سرعة انزلاق الفرد بحسب وعيه وتحصّنه النفسي، منهم من يتفاعل مع المبتزّ في اللحظات الاولى، وآخرون يستلزم الإيقاع بهم وقتاً أطول. لذا، تولي الأجهزة الامنية أهمية قصوى لسرعة التبليغ عن أي عملية أو محاولة ابتزاز، عبر الخط الساخن 293293-01 في مكتب الجرائم المعلوماتية، لتتمكن من ضبط الفاعل ووضع حدّ للابتزاز.
ويقول مسلّم: «بعض الضحايا قد يتردّدون أو يخجلون في بداية الامر من تبليغنا فيتورّطون أكثر في الابتزاز، لذا ننصحهم بعدم الإستجابة والخضوع لِلجاني، انما اللجوء إلى الخط الساخن لكي تتمكن الاجهزة الامنية من تعقّب الفاعل، واللجوء إلى تقديم شكوى إذا إقتضى الامر».
ويضيف: «كذلك ننصحهم باللجوء إلى موقع قوى الامن الداخلي www.isf.gov.lb وخدمة «بلّغ» عبر الاتصال على 112، أو زيارة صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي.
ويتابع: «نتحرك بعد إشارة من الضحية أو أهلها، وبقدر ما نتبلّغ بسرعة نتمكن من معرفة مصدر جهة الإبتزاز بما نملك من وسائل وتقنيات لمكافحة الجرائم إلكترونياً»، مشيراً إلى أنّ مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية والاجهزة الامنية «بوسعها توقيف أي شخص ضمن الاراضي اللبنانية يحاول الابتزاز، فيما يعمل جاهداً للتواصل مع البلدان في حال تأكده من أنّ الجاني خارج الحدود».
هكذا تكشف المبتز
من هم الأكثر عرضة للوقوع ضحايا الابتزاز؟ لماذا يتحول المرء إلى مبتز جنسي؟ كيف يمكن تخطي تلك المرحلة؟ وغيرها من الاسئلة توجهنا بها إلى الاخصائية في علم النفس التربوي جويل فغالي كميد التي لفتت إلى أنّ الابتزاز انواع، والتعريف واحد: «إنه أحد انواع التلاعب النفسي يحدث خلاله استخدام منظومة من التهديدات وأنواع مختلفة من العقاب يوقّعها شخص ما على آخر في محاولة للسيطرة على سلوكه».
وعن الاسباب التي تدفع المرء لابتزاز الآخرين، خصوصاً جنسياً، فتقول: «المتحرش الجنسي مريض بحاجة ماسة للمساعدة، وهو على الارجح ضحية ابتزاز جنسي و/أو عاطفي، فتحوّل الى متحرش ومبتزّ».
وتُعدد كميد سِمات شخصية المبتزّ: حبّ التملك والغيرة الشديدة، الرغبة في تحريك الآخرين كما يحلو له، حاد المزاج، علاقاته لا تدوم، يبدّل عمله باستمرار، يصعب عليه تقديم تنازلات، يرفض مبدأ التكيّف، يتمتع بمقدرة عالية على خداع الآخرين والتلوّن».
من الاكتئاب... إلى التصدي
وتُحذر كميد من تداعيات الابتزاز الجنسي، قائلة: «يؤدي إلى تدمير الفرد، فالأشخاص الذين تعرضوا لمضايقات جنسية تتدمّر عواطفهم ورغباتهم الجنسية، ويُصابون بحالات الاكتئاب، وتتكسّر روابطهم الأسَرية».
وتضيف: «يترك الابتزاز العاطفي أثراً كبيراً في نفسية الضحية وشخصيته، قد يحتاج الى سنوات من العلاج النفسي المستمر بعد إبعاده عمّن ابتزّه. وغالباً ما يتحول المرء إلى ضحية سهلة للادمان والانحراف بسبب القلق النفسي وغياب الطمأنينة الداخلية، وقد يبلغ درجات متقدمة من الاكتئاب تصل إلى الانتحار في بعض الحالات».
وتلقي كميد مسؤولية على الضحية، قائلة: «كلما طالت مدة الابتزاز ولم تُقاوم الضحية، تمادى المتحرّش وتفاقم حجم ابتزازه، من إشباع رغباته إلكترونياً إلى ملاقاة الضحية والتفنّن بابتزازها والاستفادة منها، مادياً، جنسياً، وغير ذلك».
وفي وقت يبرز الاولاد أكثر من غيرهم عرضة للابتزاز الجنسي، تتوقف كميد عند جملة مؤشرات تُتيح للأهل معرفة ما إذا كان أولادهم ضحايا، قائلة: «يتغيّر سلوك الولد، يمضي وقتاً منفرداً، يدمن على الانترنت، يتحوّل إلى عنيف، منطوٍ، تبدو عليه علامات التعب الجسدي، يتراجع في الدراسة، يبتعد عن رفاقه». لذا تنصح «بالتواصل الدائم مع الولد، واعتماد وسائل استعمال الانترنت الآمن، تحديد وقت استخدام الانترنت والاشراف عليه، تدريبه على عدم نشر معلوماته الشخصية أو صوَره".