لم يكن الإجماع اللبناني على إبعاد شبحٍ ما يُدبَّر للمنطقة من موجات عنف عن الساحة الداخلية مجرد تعبير عن نيّات طيّبة. ولم تتلاقَ الدعوات الدولية والمحلية الداعية الى إبعاد لبنان عن انعكاسات المواجهة المتوقعة بالمصادفة. فقد سخّر المحوران فيها الأسلحة والمليارات وآلاف الضباط والعسكريين قبل أن تكتمل فصولاً من دمشق وبغداد وطهران الى البحرين وصنعاء. فما هي القراءة التي تبعد بيروت عنها؟من نافل القول إنّ بعضاً من الملفات والقضايا الشائكة التي عانت منها الساحة اللبنانية وشهدت نهايات سعيدة، قد رُسِمت لها في مكان ما وبإتقان شديد سيناريوهات أنتجت المخارج التي وزعت الأرباح على جميع اطراف النزاع بالعدل والقسطاس بعد طول استحالة. وقياساً على بعض من هذه التجارب فقد بقي لبنان خارج حلبة النزاع الدموي الجاري في المنطقة على رغم وجود ممثلي مختلف الأطراف المتنازعة فيه.
ولذلك، تترقّب الأوساط السياسية والديبلوماسية والأمنية التي وضعت الساحة اللبنانية تحت المجهر كيف ستستوعب هذه الساحة تداعيات قمم الرياض ومضمون الخطابات النارية باللغتين الأميركية والسعودية وما شهدته من مواقف تصعيدية، فما جاء في البيان الختامي للقمة الأميركية ـ الخليجية ـ الإسلامية وما تلاها في «إعلان الرياض» من مقررات تجاه المحور المعادي لامس شعور اللبنانيين المنقسمين حول المحوَرين حتى العضم، لكنه لم يقدْهم الى المواجهة التي كان البعض يتصوّر أنها مبرَّرة وحتمية.
وعليه فقد توقفت هذه الأوساط بداية عند الحرب الإلكترونية عبر وسائل التواصل الإجتماعي ورسائل الـ«إس. إم. إس» التي ابتدعت روايات ونكات كانت كافية لإشعال الحرب بين اللبنانيين لما فيها من سخرية وتجريح لم يوفّرا أحداً، فاستوعبها اللبنانيون وتداولوها بلا حرج.
ولم تحرِّك شارعاً أو تثير توتراً الى أن حاصرتها سلسلة من المواقف السياسية والحكومية على وقع حراك ديبلوماسي يترقب المراحل المقبلة مستكشِفاً الآليات التي ستترجم القرارات الكبيرة التي اتُخذت من دون القدرة على توقعها بدقة ومدى نجاحها والنتائج المرتقبة لها.
ومن هذه التوقعات الغامضة، وفي ظل فقدان آليات عملية لترجمة ما اتُخذ من قرارات كبرى على المستويات العسكرية والسياسية والدبلوماسية، فسّرت الأوساط المراقبة هدوء الساحة اللبنانية بالإستناد الى استمرارها واقعة في مدار التهدئة الدولية والإقليمية لغايات واهداف لم تتبدل منذ أن أُبعِد البلد الصغير عن تردّدات كل ما يجري في محيطه ليبقى واحة استقرار وأمن وسلام.
وقالت هذه الأوساط إنّ كل التقارير الديبلوماسية التي وردت من العواصم الكبرى المتناحرة والمعلومات المتداوَلة على اعلى المستويات جزمت بأنّ لبنان باقٍ في منأى عن كل مظاهر السخونة المتوقعة في ساحات المواجهة المباشرة، وما على اللبنانيين سوى التفرّغ لحلحلة شؤونهم الداخلية وترتيب البيت الداخلي للعبور بالإستحقاقات التي تحيي مظاهر الدولة وإعادة بناء المؤسسات الدستورية منعاً من الإنهيار المرفوض.
وللدلالة على هذه الرسائل الدولية بكل مضامينها والتي تبلّغها المسؤولون كثيرة. فقد ظهر جلياً أنهم انقادوا جميعاً الى لغة التهدئة بما فيها من «عض على الجرح» وخروج عن المألوف من المواقف. وللدلالة على ذلك لا بد من لفت النظر الى الإشارات الآتية: فرئيس الجمهورية الذي هاله أولاً تغييبه عن القمة واستبداله برئيس الحكومة سارع الى دعم التغريدة الذي أطلقها صهره وزير الخارجية من مضمون «إعلان الرياض».
ولاقاه رئيس الحكومة نازعاً عن الإعلان السعودي المصدر أيّ «صفة إلزامية له في الشكل والمضمون» بعد ساعات على «تبرير» تيار «المستقبل» لكل بند من بنوده، واضعاً إياها في الموقع الصحيح سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً طالما أنه من نتاج مثل هذه التظاهرة الدولية الكبيرة والإستثنائية التي يتقاسم المشاركون فيها روح العداء ضد إيران.
ولم تنقص ما جرى لتطويق ذيول ما حدث في الرياض، سوى إطلالة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرلله الذي قدّم مزيجاً من التهاني والضمانات. فتوجّه بالتهاني منها الى كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الخارجية وتيار «المستقبل» ومجلس الوزراء مجتمعاً بوجود رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء من مختلف القوى السياسية، الذين أكّدوا أنّ «ما يلتزمه لبنان هو خطاب القسم والبيان الوزاري، وأنّ «إعلان الرياض» لا يُلزم لبنان بشيء...»
وبذلك يكون نصرالله قد فصل نهائياً بين وجود الخلاف بينه وبين الفريق الآخر حول القضايا الإقليمية «من سوريا والعراق وإيران والسعودية الى اليمن والبحرين وفلسطين...» حائلاً دون وصوله الى الداخل اللبناني، وجازماً بأنّ «كل المواقف التي صدرت في قمم الرياض لن يكون لها أيّ انعكاس على الوضع الداخلي اللبناني وذلك بفضل همّة اللبنانيين وتعقلهم وتفاهمهم.
ولم يُقصّر في ضخّ أجواء التهدئة مؤكداً أهمية الحفاظ على الأمن والاستقرار ومتابعة الملفات الاقتصادية والمعيشية والحياتية للناس، في قضايا الإصلاح الداخلي والحوار الوطني، ومشدِّداً على الحوار قائلاً: «يجب أن نتكلم مع بعض ونتفاهم ونكون معاً في الحكومة ونطوِّل بالنا على بعض وندوِّر الزوايا». مستنتجاً أنّ هذه المواقف هي «ما أعطى لبنان خلال الأشهر الماضية هذا المستوى من الأمن والاستقرار». وأنّ هذه الأجواء هي التي «ستنسحب الى ما بعد قمة الرياض».
والى جملة الضمانات الداخلية هذه لا تتنكّر الأوساط المراقبة لأهمية المواقف الدولية التي تؤكد بقاء سقف الحماية للبنان واللبنانيين. فقمّة الرياض لم تطلب من لبنان شيئاً وإيران لن تفعل أيضاً. وإبعاد شبح العقوبات الأميركية المالية عنه والإصرار على دعم الجيش بما يريده من سلاح وعتاد لا يمكن تجاهله على الإطلاق.
والى الضمانات الدولية تنبغي الإشارة الى كم الضمانات الروسية التي تلقّاها لبنان لإبقائه خارج مدار ما ينتظر المنطقة من أحداث تفوق ما شهدته الى الآن. وإنّ غداً لناظره قريب.