إني أحب أبناء الطوائف الأخرى إذا كانوا مواطنين متمسكين قولاً وفعلاً، في فترات السلام وفي فترات الحرب والفتن، بالمواطنة.. وأحب الآخرين الذين، ولأنهم ليسوا مواطنين بما فيه الكفاية، يكرهونني، وأنا أكره النقصان في مواطنيتهم وأدعو لهم بالشفاء على يد الدولة التي وحدها إن عادت، أعادت لنا الوطن «الذي يهرب من عيون من يولدون» ـ كلام قلته عام 1973م. ولا يسعدني أن أحاور، مكرهاً، سكان أقبية الطوائف، الرطبة، ولا أشتهي أن أسكن فيها، بل أحب السياحة في فضاءاتها غير عارٍ أو متخف أو مقنع أو منتوف الجناحين، بل بجناحيَّ أنا، لا بجناح أو لسان مستعار ـ منافق - لأبقى على حب من أحب من أبنائها سراً أو علناً ومن يحبني منهم سراً أو علناً.. لأن المجاهرة بالحب في هذا الجو الكريه يعرضك للعقوبة ويعرض من يحبك لمثلها.
لهذه الأسباب وغيرها، أنا خائف، وللمرة الأولى أشعر أن خوفي من رهطي وعصبتي والآخرين، أشد من خوفي من الله. ويشتد خوفي عندما يكاشفني أحباء كثر بمثل خوفي أو أشد منه.. وخوفنا لا من العدو الأصلي الذي إذا قتلنا شرفنا بقتله إيانا.. شرط ألا يدفعنا أحد الى منطقة القتل لغاية في نفس يعقوب.. فنصبح ضحايا لا شهداء ويقلّ ثوابنا، لأنه كان ينبغي علينا أن نتنبه الى تجار الأرواح.. على أنه لا بد أن يسمح لنا الأوصياء الذين لم يعيّنهم أحد علينا، وهم أولى بوصايتنا عليهم من وصايتهم علينا، أن يسمحوا لنا بأن نقول وبالفم الملآن.. ومن على قبور ارحامنا واصدقائنا الشهداء، لا ضحايا الفتن الداخلية، لا يجوز.. لا يجوز أن تكون الشهادة هدفاً حصرياً، لأنها تصبح شركاً بالله وإن كان غير صريح.. أو شبه شرك مع حسن الظن والتماس العذر. علماً بأن الشهادة للحق ليست قصراً على دين بعينه ولا مذهب بذاته.. وهناك ما لا يحصى من شهداء الحرية والعدالة ليسوا من أهل الأديان.
أما ممّ نخاف؟ فمن كل شيء، من السلاح والكلام والإعلام والعلماء والجهلاء والأصدقاء والأعداء والمتدينين وغير المتدينين ومن غير المتدينين الذين يرطنون بكلام المتدينين، ومن المتدينين الذين يرطنون بكلام غير المتدينين.. ونخاف من الفتنة ومن الخلاف والاتفاق علينا، ومن النظام هنا ومن أعداء النظام هناك، ومن الليل والنهار، ومن هذا الشرطي دون ذاك، ومن هذا الجندي دون ذاك.. أو مع بعضهما البعض. ونخاف من الغد وبعده ونخاف من الأمس وأول أمس، ومن الأعوام التي مضت والأعوام التالية، ونخاف على الذات أي المعنى والوعي والحلم والحوار، وعلى الوطن والمواطن والروح والجسد والدين والدولة والورد والشوك وعصافير الشوك والتراب والحجر والعمران وبساتين الليمون وكروم الزيتون ومشاتل الحبق والدحنون، ونخاف على الآخرة والدنيا والحفيدات والأحفاد والعلم والأدب والفن والفقه والقانون والسنديان والأرز والمطر والثلج والصحو وقوس قزح.. والشبان والشابات من أبناء «الطوائف» الذين ندس لهم فيروسات التعصب الذميم في فناجين القهوة وكتب القراءة. أما أهم مصادر خوفنا فهو زعماء الطوائف، كل زعماء الطوائف الروحيين والذين بلا روح ممن يشبهون العلمانيين أو المدنيين شكلاً ويشبهون الزنادقة مضموناً.. ونخاف من الأحزاب التي تولد من الطائفية ثم تلدها كأنها من نوع الخنثى التي تجمع الذكورة الى الأنوثة ولا تحتاج الى حب أو الى زواج بل تتوالد ذاتياً كالقيء أو سم الأفاعي والعقارب، أو لؤم الذئاب أو جبن الأرانب.. نخاف الأحزاب التي تبقى هي هي وإن طوقتها بالذهب.. ونخاف من القيادات الحزبية والروحية التي تراكم المخاوف والأحقاد والمساوئ بكفاءة عالية وتتقن تخزين وتفخيخ نواياها السيئة وتموهها بالطموحات الوطنية والانسانية وتستخدمها في جلب المصالح الخاصة وتحقيق المطامع وإقناع القطيع المخدوع بأن المنكر معروف وأن المعروف منكر، وان الدين لعبة والدنيا ملعب. وتسأل أو يسألونك.. هل هناك حرب؟ هل هناك فتنة؟ وهل سوف يفرم عمرو زيداً أو يفرم زيد عمراً.. أو يفرمان الوطن والدولة ليصبحا وجبة منوعة من المشوي من (القطع) والكباب على قليل أو كثير من ملح الدين وملاحة الطائفة وخمرة النصر الذي بطعم الهزيمة أو الهزيمة التي ترفعها المكابرة الى مقام النصر المؤزر؟ بما يقتضي ذلك من عودة الزعامات الى مضاعفة ثرواتها بالمساعدات العربية والتعويضات القطرية!!! علماً بأن لا قطر بعد اليوم ولا كويت ولا سعودية ولا إمارات.. وإيران ليست بحراً محيطاً لا يقبل النضوب.. ولها شعب يحب الحياة وله مطالبه المشروعة. وفيها اعتراضات على هذا النزوع الى شراء أو استدعاء العداوات واستخدام الخرافات.
والأنكى ان أهل الدنيا يزينون لنا الآخرة لتسلم لهم دنياهم، لنستشهد ويشهدوا لنا مشكورين بالإيمان والإخلاص والتضحية والفداء والجنة.. ويا ليتهم يعجلون بالذهاب الى جنتهم ويتركون لنا هذه «الجهنم» الوطنية الجميلة الباردة في الحر، الدافئة في القرّ، لبنان الممتلئ خضرة وورداً وحباً وشعراً وحوراً وحواراً ولبناً ولبناناً ولُباناً، وعسلاً ملكياً، لأنه الوطن.. الوطن وكفى وأَنْعِم، وطن تزداد فيه المواطنة ألقاً وعمقاً ووهجاً وجمالاً كلما جُمع أو اجتمع وجمع، ويصبح موجعاً موجوعاً إن لم يجتمع ويجمع، ويصبح آيلاً الى السقوط، إن لم يرتفع هامةً وقامةً ومعنىً ودوراً واستقراراً ووفاقاً وازدهاراً وشراكةً ومحبة، الى مستوى رسالته المنتظرة دائماً.. وفوق الجميع بالجميع من أجل الجميع.
هذا الخوف الذي يلازمنا كظلالنا أو قلوبنا في المدينة والقرية، في السفر والحضر، في المخدع والمسرح، في القراءة والكتابة، في الحبر والطرس، في الجامع والكنيسة الجامعة، في العرس والمأتم والمولد ويوم الختان.. رهاب طائفي وحزبي وزهايمر مذهبي يحول الحياة الى نكد وكآبة ويأس وإحباط وتردد وعدم قدرة على التمييز بين القبيح والجميل، هذا الصباح صباح الجمعة العظيمة أو الحزينة أو اللئيمة (27 أيار) كان الخوف والحزن قد اشتعلا البارحة بسبب تماس كهربائي بين الخطوط العارية واقتراب الشرر من حطام الدولة والحريق من هشيم الوطن وثياب المواطن وغابات الأرز وأحلام العذارى عندما شهر بعض من الدولة سلاحه على البعض الآخر فشهر هؤلاء سلاحهم.. كان الحزن هذا الصباح يساوي أو يفوق حزني على الحسين في كربلاء والمسيح في الجلجلة وعذابات شهداء وسجناء الرأي.. وأصبح خوفي يتخطى الخوف من النار واسرائيل ومصير الأبانوس في غابات السودان الغني والجائع دائماً والمتقاتل دوماً وأبداً.
الله ينتقم منهم، كما تدعو أمي على الأشرار الذين ظلموا وحيدها واسرائيل التي قتلت سلفتها وجارتها وشقيقتها وابن سلفها الذي كانت تتعارك معه يومياً وتحبه ليلاً نهاراً.
عندما شاهدت على التلفاز صورة لا يعتريها التزوير لجسد الطفل الحوراني حمزة الذي يشبه الوطن والمستقبل وسورية وفلسطين ولبنان، مزروعاً بالرصاص مباحاً للسكاكين والسناكي والسواطير، ممدداً وكأنه راجع لتوه متعباً من ملعب القرية الترابي مضرجاً بالتراب مزيناً بالدم حريصاً على كيس الكرات البلورية التي كسبها من أترابه في لعبة حلال، موشى بالكدمات والجراح وكأنها أنواط الشجاعة أو شهادة بحسن سلوكه ومواظبته على دروس الحرية.. مقطوع الذكر، فعل الخصيان، وكأنهم يخشون أن ينجب متظاهرين في قبره في ثرى حوران.. شاهدته وترددت بين العويل والضحك واليأس من الطغاة والأمل بالأحرار وتذكرت طفل الحسين، وفارس عودة وأحمد الدرة، وندى طهران وبوعزيزي تونس.. وشعرت بالشوق الى حفيدي مهيار للاطمئنان على أعضائه الأشرف والأطهر من شفاه الطغاة وجلاوزتهم.