لم يكن حديث رئيس الجمهورية العماد ميشال عون امام زواره اول امس عن العودة الى قانون الستين بدلاً من أن «يفلت البلد» في ظل الفشل من التوصل الى قانون جديد، زلّة لسان أو نتيجة إرباك أدّى الى هذه المعادلة الجديدة التي نسفت واحدةً سبقتها قادته في لحظة باتت من الماضي الى تفضيل الفراغ على قانون الستين؟
فقد تبخّرت معظم الأحلام التي استهلكت كثيراً من الحبر والورق وساعات من الخلوات الليلية والنهارية وعادت الأمور الى نقطة الصفر. وسقطت رهانات كبيرة وفشلت خطوات كان الهدف منها تجميد السير في السرعة التي كان يريدها البعض لتكريس التمديد ولو مُقنّعاً.
بين العارفين مَن يقول إنّ الحرب التي شُنَّت على قانون الستين شكلت الخطة «ألف» لدى كثيرين، كلٌ من وجهة نظر مختلفة. ولم ينجح أيٌّ منهم في وضع الخطة «باء»، فتخبّط الجميع على مدى سنوات من دون أن يتبيّن للمراقبين عمّا إذا كان في كل ما جرى نوع من توزيع الأدوار أفضى الى عجز عن توليد القانون الجديد. فليس بين طبّاخيه على مختلف المستويات مَن كان قادراً على إحتساب النتائج التي يمكن أن يؤدّي اليها النزاع.
فكلّ منهم كان بارعاً في «الدفاع» عن مشروعه الى النهايات. ولو لم ينجح في إقناع الآخرين وجمع القوى الكافية للبتّ به على رغم موجات الأمل والتفاؤل التي ضُخَّت في أعمال اللجان والوسطاء الذين جهدوا لتسويق هذا المشروع أو ذاك.
يرغب البعض في عدم توجيه التهمة الى هذا الفريق أو ذاك، فالجميع ابدعوا في التبرير والشرح لمصلحة هذه الصيغة أو تلك، تارةً بالتبنّي المباشر للمواقف الرافضة، وطوراً بالتلطّي خلف مواقف أخرى وُصفت بأنها تستند الى خصوصيات ومعادلات لا يُمَس بها حفاظاً على إمتيازات نالها في ظروف إقليمية ودولية وداخلية تبدّلت وتغيّرت ولم يبدّل اللبنانيون من نتائجها شيئاً، وذلك على قاعدة أنّ التغيير والإصلاح في لبنان كانا وسيبقيان من أصعب المهمات ما لم تتوافر القوة القادرة على تدوير الزوايا.
وبناءً على ما تقدّم يظهر أنّ جميع الذين فشلوا في التوصّل الى قانون جديد يستعدون لإستغلال إشارة رئيس الجمهورية الأخيرة عندما تحدّث عن الاضطرار المضي في قانون الستين بعدما فشلت السلطة السياسية مجتمعة في إنتاج قانون جديد. فهو قام بما يمكنه القيام به لمنع تجرّع العهد وحماية الحكومة من السقوط بتجرّع كأس الستين والتمديد والفراغ معاً.
وأنه لم يستطع أن يقنع أحداً من شركائه في السلطة بأيّ من المشاريع التي طرحها خَلَفه في رئاسة «التيار الوطني الحر» على رغم رفع السقوف تارة في اتجاه التهديد بالفراغ «كخيار أفضل» من التمديد، وأخرى بالدعوة الى التصويت في مجلس الوزراء للبتّ بأحد القوانين المطروحة، وطوراً بالسعي الى إجراء «استفتاء شعبي» لم تعرفه الجمهورية اللبنانية قبلاً ولم يجد له رافضوه مادةً واحدة في الدستور تبرّر اللجوء اليه أو الإعتماد على نتائجه إن حصل والإقرار بما يمكن أن يؤدّي اليه.
وفي ظلّ هذه الفوضى التي زادت منسوبَ التوتر بين اللبنانيين نتيجة الحملات التي استهدفت هذا الفريق أو ذاك، والإتهامات المباشرة وغير المباشرة التي طاولت أفرقاء قيل إنهم وضعوا اليد على حصص المسيحيين في وقت سابق وقد آن أوان استعادتها، رفعت لاءآت ثلاثة: لا للتمديد، لا لقانون الستين، لا للفراغ، فبقيت شعارات زادت من إحباط اللبنانيين وعنف المواجهات المفتوحة في الصالونات السياسية، ونصبت المكائد والأفخاخ لجسّ نبض القوى السياسية وفهم مراميها الحقيقية.
لكن ما ثبت أنها كانت عملية فاشلة بعدما أظهرت القوى المختلفة حيالها تصلّباً لا سابق له بالإستناد الى قراءات ومعطيات ليس سهلاً تعديلها، حتى إنّ بعضهم وصل الى مرحلة التهديد بالعصيان المدني والقيام بأيّ عمل قد يهدِّد الأمن والسلم الداخليَّين ولم يتوافر أيّ مخرج للأزمة وهو أمر أظهر حجم انعكاسات ما يجري في المنطقة على الداخل اللبناني فلم ينتصر أحد في سوريا بعد، والمواجهة المفتوحة على أرضها توسّعت في الأمس القريب الى العالمَين العربي والإسلامي في مواجهة مفتوحة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي الساعات الأخيرة التي سبقت حديث رئيس الجمهورية عن العودة الى اعتماد القانون النافذ لئلّا يقع الفراغ والفوضى، نُقِل عنه شعوره بالإحباط لإصطدام ما أراده بالحائط المسدود. فقد حذّر سابقاً من خلال رفضه توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة من الوقوع في الفراغ فوجده أفضل من العودة الى الستين، ومن ثم استخدم صلاحياته الدستورية للمرة الأولى في تاريخ ساكني قصر بعبدا وقبله قصر القنطاري، فجمّد عمل المجلس النيابي شهراً لمنع التمديد للمجلس النيابي فإذا به يصطدم بالعوائق عينها، وإنّ مَن أمسك ببعض المواقع النيابية في مراحل سابقة ليس مستعداً للتخلّي عنها بأيّ شكل من الأشكال.
وبناءً على ما تقدّم، هناك مَن يعتقد أنّ الفريق الذي خاض معركة تحسين التمثيل المسيحي حمل أقدس وأصدق القضايا التي لم يتجاهلها كثيرون من المقلب الآخر، لكنه استخدم من أجلها اسوأ الوسائل والآليات فرفع من منسوب التوتر بين الأفرقاء وصولاً الى التهديد بالفتنة الداخلية والمذهبية.
وخاض مواجهات عبثية مع مَن إتُهِم بوضع اليد على مقاعد المسيحيين تزامناً مع فتحه جبهات داخلية أخرى خاضها في الداخل المسيحي في مسعى اعتبره كثيرون «حرب إلغاء جديدة».
وللغوص في هذا المعطى ثمّة كلام كثير يمكن أن يستهلك صفحات ومقالات عدة، لا ينفع التوغّل فيها اليوم، ولكن ألم يكن من الأجدى تطبيق المثل القائل «خُذ وطالب» خلافاً لأمر واقع جديد يستند الى القول «مَن طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه».