كأنه أحد برامج تلفزيون الواقع الذي إستعان بنجمه السابق لكي يؤدي طوال الايام الثلاثة الماضية واحداً من أصعب أدواره حيث تنتقل الكاميرا للمرة الاولى الى ثلاثة أماكن للتصوير الخارجي. لكن النتيجة أن دونالد ترامب الذي إستخدم أقصى طاقته في الخداع، فقد موهبته، وفاقم مشكلته مع جمهوره الذي بات يميل الى إقالته من منصبه، أو على الاقل منعه من التدخل في إدارة شؤون الدولة الاميركية، أو ربما فرض الاقامة الجبرية عليه في البيت الابيض..وحرمانه من السفر الى الخارج.
لم ينخدع الاميركيون بتلك اللقطات والصور الفريدة للحفاوة السعودية الاستثنائية بممثلهم التلفزيوني والسياسي المثير للجدل، ولا يبدو أنهم صاروا أقرب الى الصفح عنه، وسحب الاتهام الموجه اليه بانه رجل مخبول، مبتذل، يشكل خطراً على أميركا وعلى العالم، مقابل المليارات التي جناها من السعوديين، أو شهادات حسن السلوك التي تلقاها من الاسرائيليين والفلسطينيين. كان المشاهد الاميركي يتابع على محطاته التلفزيونية الرئيسية أخبار التحقيق حول ترامب، بإهتمام أكبر من متابعة تفاصيل زيارته الى السعودية.
وإذا كانت خدعة المليارات السعودية قد أنطلت على الجمهور العربي، فإنها بالتأكيد لن تمر على الاميركيين الذين يعرفون بلا شك أن الصفقات النفطية والعسكرية التي وُقعت في الرياض لم تنجز في الايام المئة الاولى من عهد ترامب بل هي نتاج مفاوضات طويلة بدأت في العامين الاخيرين من عهد باراك اوباما وكادت تصل الى التوقيع لولا رغبة السعوديين في إهداء هذا الانجاز إلى الرئيس الجديد علهم يكسبونه ويحققون معه المصالحة الاميركية السعودية التي طال انتظارها وكادت تصيب المملكة باليأس من إمكان إستعادة الحليف الاميركي التاريخي..من حضن إيران.
هذه الخدعة لم تكن الوحيدة التي شهدتها قمم الرياض الثلاث:
-بدلا من الفكرة (الامنية) الخرقاء التي راجت عن إحتمال تشكيل حلف ناتو عربي أميركي، جرى الإعلان عن تشكيل قوة للقتال في سوريا والعراق، تضم 34 ألف جندي، وهي قوة قائمة بالفعل منذ العام 2014 تحت إسم التحالف الدولي لمحاربة داعش، وهي تقاتل من الجو والبر السوري والعراقي ، وتضم تقريباُ العدد نفسه من الجنود، الذي حُدد للقوة العتيدة، أي 34 ألفاً!
-مع الفكرة الحمقاء التي شاعت عن أن ترامب أصبح نصير الاسلام والمسلمين وغيّر مواقفه السابقة الحافلة بالعداء والكراهية، أُعلن عن تأسيس مركز جديد لمكافحة التطرف ووقف تمويل الارهاب، وهو يضاف الى عشرات المؤسسات والمراكز القائمة بالفعل والتي تؤدي هذه المهمة منذ سنوات ، بل ربما منذ هجمات 11 ايلول 2001 ، وهي تعقد اجتماعات دورية في واشنطن والرياض وفي غيرهما من العواصم المعنية، وتضع لوائح الارهاب، وشروط "الاعتدال"، وتلاحق الارهابيين ومموليهم وتكافح الفكر المتطرف ومصادره المختلفة.
خلال التغطية التلفزيونية الحية، قال ترامب في الرياض كلاماً عن إيران يُطرب السعوديين لكنه لا يروق للاميركيين الذين تشربوا في عهد أوباما فكرة التمييز بل والتفضيل بين الارهاب السني والارهاب الشيعي. كما أنه كلام لا يفصح عن أي إستثمار سياسي، لا في مساعدة الرياض على الخروج من مأزق حرب اليمن، ولا في دعم مسعاها لاخراج الايرانيين ومليشياتهم من سوريا والعراق. الصفقات التي وقعت بين البلدين كانت في غالبيتها نفطية تهدف الى تحديث قطاع النفط السعودي المتقادم، أكثر من تعزيز قدرات الجيش السعودي على جبهات المعارك التي يخوضها ، او حتى الاخلال بالتوازن العسكري مع إيران.
في ظهوره الاخير على شاشة تلفزيون الواقع ، كان ترامب بحاجة الى تحقيق إنجازات سياسية واقتصادية تعرقل التحقيق حول تورطه في علاقات مشبوهة مع روسيا. وكان الحكم السعودي بحاجة الى تحقيق إختراق في جدار الصمت الذي أقامه أوباما، وإحياء الود القديم مع أميركا. لن يكون من السهل الاستنتاج بان الجانبين حققا مرادهما، وتمكنا على الاقل من إقناع الروس وحتى الايرانيين ان ثمة تحولاُ إستراتيجياً يحصل في موازين القوى الاقليمية والدولية.
ثم جاء البرهان الاخير على ضعف أداء ترامب التلفزيوني، عندما حط في إسرائيل حيث إستُقبل مثلما يُستقبل أي ممثل سينمائي من هوليود، بالكثير من الاحضان والاضواء وصور السِلفي والقليل من الجدية والمهابة والسياسة. لم يضحك أحد عندما قال لحشد من المسؤولين الاسرائيليين انه "عاد للتو من الشرق الاوسط"! (المؤكد أنه لا يعرف أن دولة إسرائيل تعتبر نفسها جزءا منه)، ولم ينزعج أحد من الاسرائيليين لزيارته الخاصة الى حائط المبكى، حيث أدى مشهداً صامتاً، وكان يفكر ربما في القيمة العقارية للمكان وتوابعه..من دون ان يتورط في جدل سياسي حول القدس والاستيطان والتسوية، أو حول المغزى العقاري لحل الدولتين!
لم يكن أداء ترامب التلفزيوني مقنعاً. وعندما سيصدر الجمهور الاميركي حكمه النهائي عليه، يمكن أن يركز على خطورته، ويدين مراوغته السعودية ومناورته الاسرائيلية..لكنه سيحرم العالم من نوع فريد من برامج الترفيه السياسي العجيبة.