بَدت تلك الشخصية، وهي تورد ما لديها، مغمورة بثقة عمياء، إذ إنّ معلوماتها مبنية على كلام رئاسي مباشر وصريح، ما جعل المرجع المذكور يعتقد أنّ الغمامة الانتخابية ستنجلي وأنّ الامور ستعود الى جادة الصواب.
ولكن يبدو انّ الرياح هبّت مجدداً في اتجاه آخر، والمعلومات التي وصفتها الشخصية المذكورة بأنها «موثوقة ودقيقة»، بخّرها موقف رئيس الجمهورية وفيه عودة الى قانون الستين!
لم يستطع المرجع المذكور ان يمنع نفسه من الاستغراب. اوّل ما تبادر الى ذهنه سؤال «شو هالدوّيخة»؟ ... ثم سارع الى الاتصال بتلك الشخصية، ودار بينهما حوار قصير لم يَخل من الإبر والكلام الطريف:
- المرجع: «ستين» مرحبا.
- الشخصية: «ستين» أهلا، انا عارف شو بدّك تقول... بدك تمرّك عليّ».
- المرجع: «شو بدّك زلغطلك!!»... هيأتك مش عارف شي من شي؟
- الشخصية: «قول اللي بتريدو... بس في فمي ماء».
- المرجع: «والله حَسيّت من البداية انو «بمعلوماتك» عم تعطينا إبرة بنج».
- الشخصية: ابداً، قلتُ لك ما سمعته حرفياً. وكما قلت لك في فمي ماء. لكن انا حاسس إنو رح نفوت بـ«خبيصة» إلها اوّل وما إلها آخر».
- المرجع: يعطيك العافية... من الاول حكينا وما حدا سمع. عم تحكي عن «خبيصة» متل اللي رايح على الحج والناس راجعة. وقبل ما إنسى سلّملي ع «الخبيصة».
وانتهى الحوار عند هذا الحد.
السؤال الذي يحضر هنا: اذا كان رئيس الجمهورية يؤكد انه لن يترك البلد يفلت، إذا فشل السياسيون في الوصول الى قانون جديد من الان وحتى 20 حزيران المقبل، بما يجعل قانون الستين هو المخرج الوحيد، لإجراء الانتخابات على اساسه خلال 3 اشهر بدءاً من يوم انتهاء ولاية المجلس النيابي الحالي.. فأيّ رسالة سياسية يتضمنها الكلام الرئاسي ولمن يوجهها؟
جوهر الكلام الرئاسي ليس فقط العودة الى قانون الستين، بل في انه لا ينطوي على تمديد عادي للمجلس النيابي ولا على تمديد تقني مؤقت ريثما تجري الانتخابات بل على إجراء انتخابات بعد ان تنتهي ولاية المجلس يذهب النواب الحاليون الى بيوتهم... وكل من التقوا الرئيس في الآونة الاخيرة سمعوا كلاماً بها المعنى. كما يتأكد ذلك من كلام الرئيس نفسه «علينا ان نرى ما ينصّ عليه الدستور ونعمل بهَديه، والدستور ينص على أن يُدعى الشعب الى الانتخابات ضمن مهلة 90 يوماً على اساس القانون النافذ».
معنى ذلك انّ البلد سيدخل في فراغ مجلسي الى حين إجراء الانتخابات. هنا تحضر ملاحظة انّ كلام رئيس الجمهورية يأتي مباشرة بعد التحذير الذي اطلقه «حزب الله» على لسان النائب محمد رعد وقال فيه «انّ الفراغ ممنوع».
قد يعتبر كلام الرئيس هذا من باب حَضّ القوى السياسية على إيجاد قانون قبل 20 حزيران، ولكنه قد يعتبر ايضاً بأنه يعطي في المقابل ذريعة لفريقه بالتصلّب بطروحاته اكثر، وتخيير الآخرين بين القبول بما يطرحه وبين الفراغ النيابي الحتمي أولاً... ومن ثم الستين.
بالتأكيد، الكلام الرئاسي عن الستين علناً والفراغ النيابي ضمناً، سيضفي مزيداً من السخونة على الملف الانتخابي عشيّة الجلسة التشريعية المقررة في 29 ايار.
واضح انّ الرئيس مُمتعِض من عدم الموافقة على ايّ من الاقتراحات التي قدّمها جبران باسيل، ولكن للآخرين اقتراحاتهم وطروحاتهم ايضاً، وبالتالي لا اقتراحات مُنزلة من هنا وهناك وكأنها كتب سماوية.
قد يؤخذ على الرئيس عودته الى الستين ولو على مضض، بينما كان في إمكانه ان يقول انّ القانون النسبي هو الافضل تعالوا نجلس بجدّ على الطاولة من الآن ونتّفق على تقسيمات تحقّق ما نسعى اليه من تأكيد سلامة وصحة التمثيل للجميع، خلافاً للستين الذي لطالما قال الرئيس نفسه انه «قانون ساقط لا بل قمة الفساد، منذ 12 سنة نحاول ان نصل الى قانون وعيب علينا الّا ننجز قانوناً جديداً، ولا يجوز ان نبدو عاجزين».
وقد يفسّر كلام الرئيس بالعودة الى الستين بأنه حسم نهائي مسبق للمآل الذي سينتهي اليه الملف الانتخابي، وهو ما يضع امامه مجموعة تساؤلات تطرح من القريب والبعيد وما بينهما اذا كنّا سنعود الى الستين، فلماذا كل هذا الذي حصل بدءاً بمنع تعيين هيئة الاشراف على الانتخابات ثم عدم توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة... وحتى الآن.
اذا كان البلد قد دخل في جو الانتخابات وكان في غنى عن كل هذا الاشتباك السياسي الحاصل والمرشح الى التفاقم أكثر؟ ثم اذا كانت العودة حتمية الى الستين، فلماذا لا يبتّ بذلك الآن ولتذهب الناس الى التحضير للانتخابات على هذا الاساس وإدخال التعديلات اللازمة الى قانون الانتخاب وخصوصاً ما يتعلق بالمهل؟
هناك من يعتقد انّ الكلام الرئاسي يضع جلسة 29 ايار امام احتمال ان تكون جلسة الحسم لناحية التسليم بقانون الستين وإدخال التعديلات اللازمة على هذا القانون بما يُيسّر إجراء الانتخابات على اساسه، اذ انّ هذا الاجراء متعسّر بعد انقضاء المهل، وعدم تعيين هيئة الاشراف. ولا بدّ من تعديل القانون من هذا الباب. على ان يقترن ذلك بتمديد تقني قصير المدى لا يتجاوز موعد إجراء الانتخابات الذي يفترض ان يتحدد في هذه الجلسة. لكن كل ذلك يبقى رهناً بما قد يخلق الله من الآن وحتى 29 ايار.
لكنّ الرئيس ووفق كلامه ليس في وارد التمديد ولو للحظة، ويستغرب الكلام عن الفراغ، خصوصاً انّ الدستور يدعو الى انتخابات خلال 3 اشهر. ولكن
قد يأتي من يسأل اين هو النص الدستوري الذي يدعو الى ذلك؟
الرئيس متسلّح بالمادتين 25 و74 من الدستور، لكنّ هاتين المادتين تنطبقان على حالة حلّ المجلس النيابي، ولا تنطبقان على حال انتهاء ولاية المجلس... فهل يجوز إسقاط مادتين في الدستور على وضع لا يتصلان به من قريب او بعيد؟
ثم لنفرض انّ الولاية انتهت وذهب النواب الى بيوتهم، فكيف ستجري الانتخابات خلال 3 اشهر؟ ومن يعدّل المهل، وشروط الترشيح بالنسبة الى الموظفين وانتخاب المغتربين وغير ذلك من الشروط، الحكومة ام مجلس النواب؟
ثم ماذا عن الفراغ المجلسي سواء أكان ليوم واحد او شهر او ثلاثة اشهر؟ فهل يحتمل البلد فراغاً مجلسياً في وقت تمر فيه المنطقة في أشد لحظاتها دقة وحساسية وتتعرّض لما يشبه إعادة تأسيس في اتجاه معيّن، فمن يضمن الّا يحصل امر ما في المنطقة في فترة الفراغ المجلسي، وماذا لو وصلت الرياح الى لبنان فكيف سيواجه ذلك بلا مجلس نواب، وحكومة تصريف أعمال ورئاسة جمهورية لا تملك الصلاحيات الواسعة واللازمة؟ الا اذا كان هناك من يسعى الى فراغ بقصد فرض واقع جديد... فهنا المسألة تختلف وتتطلب مقاربات مختلفة، لأنّ ذلك قد يُدخل البلد في المجهول وفي فوضى بلا حدود.