إنتهت معركة انتخابية جدية داخل النظام وداخل مؤسسة الحكم في إيران، إستخدمت فيها غالبية الناخبين الايرانيين حقها بالنقض(الفيتو)، أكثر مما مارست سلطتها في الاختيار بين مرشحَين، يفصل بينهما هامش ضيق، غير منظور، يمثل سر الديموقراطية الايرانية المفترضة وفلسفتها السياسية الغريبة، ويشكل متنفساً للجمهور الايراني يتكرر كل أربع سنوات، ولا يصمد سوى أربعة أيام. لا تثق تلك الغالبية الايرانية التي منحت الرئيس حسن روحاني فوزاً ساحقاً يقرب من الثلثين، أنه قادر على إحداث تغيير جذري في مسار السياسة الايرانية، الداخلية والخارجية، وعلى الدخول في أي شكل من أشكال التحدي لسلطة المرشد علي خامنئي وصلاحياته، لا سيما وأن جميع من حاولوا الاقدام على هذه الخطوة كان مصيرهم المنفى او السجن او الاقامة الجبرية.. او الوقوف على بوابة مستشفى المجانين، كما هو حال الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، حاليا.
ولعل روحاني هو أقل رموز التيار الاصلاحي او المعتدل، رغبة في تحدي ولي الفقيه وسلطانه المطلق. سبق لنجاد ومحمد خاتمي وللمحجوزيَن في الاقامة الجبرية مير حسين موسوي ومهدي كروبي أن شككوا صراحة بأهلية خامنئي لتولي الولاية وطالبوا علناً بتعديل الدستور وإخضاعها لأحكام المؤسسات. من هنا جاء التوصيف الأدق لروحاني بأنه وسطي وليس إصلاحياً، يعتبره نفسه موظفاً مخلصاً للمرشد والنظام، ومختلفاً حتى عن تيار الراحل هاشمي رفسنجاني الذي كان ينتمي اليه.. ولا يمكن أن تفصله عن خامنئي سوى المسافة الخاصة بالحريات الفردية، والاجتماعية للجمهور الايراني.
تلك المسافة وحدها هي التي حققت له الفوز الكاسح في الرئاسة، في مواجهة مرشح مثير للجدل، إبراهيم رئيسي الذي كان دفعه الى السباق الرئاسي واحداً من أغرب قرارات خامنئي ، لا سيما في ضوء سجله الأسود في موجة الاعدامات الواسعة في ثمانينات القرن الماضي، وفي غربته اللاحقة وإقامته المديدة في مقام الغريب في مشهد، ثم في عودته المفاجئة الى كواليس السياسة في طهران من مدخل منزل المرشد وإبنه البكر.
كان يمكن لفوز رئيسي ان يكون معبراً أكثر عن حالة النظام والسلطة وان يكون منسجماً مع سياستهما أو بتعبير أدق مغامراتهما الداخلية والخارجية التي تقترب من مواجهة لحظة الحقيقة، بعد التوسع المفرط في النفوذ في دول الجوار والتردي الشديد في الخطاب المحلي، الذي بلغ حد اللجوء الى أسطورة المهدي وتحويلها الى سلاح للتعبئة والحشد والقتال على جميع الجبهات الايرانية المفتوحة.
كان يمكن، بل ربما كان يفترض أن يفوز رئيسي ، وأن يفتح أمامه الطريق نحو القفز من الرئاسة الى الخلافة، وهو ما لم يكن سراً لا في مقر المرشد وأسرته في طهران ولا في بقية البيوت السياسية الايرانية. لكن رئيسي أُسقط بقوة التصويت الشعبي الاعتراضي، بما يشبه تظاهرة إنتخابية إحتجاجية.. مثله مثل متشددين آخرين تساقطوا في السنوات القليلة الماضية وابرزهم مصباح يزدي. الآن أصبح الطريق ممهداً ، ربما، أمام روحاني لكي يكون هو المرشد المقبل، الوسطي الذي لا يتحدى الحرس الثوري ولا يستفز الرأي العام. ولعل هذه هي الخلاصة الاهم لمعركة إنتخابات الرئاسة التي انتهت للتو الى الابقاء على معادلة الحكم من دون تعديل.
كسب الجمهور الايراني بعضاً من هوامش الحرية الفردية، وربما الاجتماعية، لكنه لم يحقق الكثير في محاولة تصويب مسارات السياسة الايرانية الكبرى. لا يمكنهم الاعتماد على روحاني لكي يخاطر في إثارة المرشد والدعوة الى وقف التدخل العسكري والامني الايراني في كل من سوريا والعراق واليمن وبقية دول الخليج العربي. وهو التدخل الذي لم يكن وارداً على جدول أعمال حملته الانتخابية، ولن يكون واردا أيضا على جدول أعمال سنواته الاربع الجديدة في السلطة.. مع أنه شخصياً ، والكثيرين من أعضاء فريقه، ليسوا من المغرمين بسفاح الشام، ولا بمخبولي شيعة العراق، ولا بمعتوهي اليمن، الذين يكلفون إيران الكثير الكثير من المال والجهد والرصيد، ويضعونها في مواجهة غالبية عربية سنية لا تقوى عليها، ولا تستطيع أن تظل في إشتباك أو في عداء طويل معها.
إختارت إيران الاستقرار الداخلي والاستمرار الخارجي، لاربع سنوات لا يبدو أنها ستكون كافية للانسحاب من الصراع مع محيطها، والشروع في تحديث نظامها السياسي المتهالك.. بناء على حق الفيتو وحده.