قبل يوم واحد من وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعودية، ضمن جولته الخارجية الأولى، عاشت إيران على وقع الانتخابات الرئاسية التي لا تعني نتائجها الكثير بالنسبة إلى الإيرانيين فيما تهمّ العالم الخارجي أكثر، ومن ذلك أنها ستحدد ملامح العلاقة المقبلة مع إيران وفق توجهات الرئيس.
وتعد الانتخابات الرئاسية وأيضا البلدية التي جرت بالتزامن معها، بالنسبة إلى الناخبين الإيرانيين اختيارا بين رؤى متنافسة للبلاد، فيما يشتركون مع الرؤى الخارجية في أن توجهات النظام هي المشكلة وليس من يتولى الرئاسة. لذلك، ستبقى الأنظار تتطلع نحو “انتخابات” أخرى أشد حساسية وخطورة، وهي تلك المتعلقة باختيار المرشد الأعلى الثالث.
وتطور مع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران سنة 1979 نظام سياسي معقد يتولى بمقتضاه الرئيس وحكومته بالإضافة إلى البرلمان مهمّة الإدارة اليومية لشؤون البلاد، في حين يمسك المرشد الأعلى بزمام كل الأمور وتحديد ملامح السياسة الخارجية وتساعده مؤسسات مثل الحرس الثوري والباسيج اللذين يقومان بدور “الأوصياء على الثورة”.
ولا يملك الرئيس في إيران أي سلطة على الركيزتين الأساسيتين لأهم ملفين إيرانيين وهما: برنامج الصواريخ الباليستية والميليشيات الشيعية التي تخدم المشروع الإيراني في الشرق الأوسط. لذلك يرى نادر أوسكوي، وهو مستشار أقدم في مجال السياسات للقيادة المركزية الأميركية، أن انتخاب رئيس معتدل أو محافظ لا يشكل فرقا ولا يقلل من مستوى التهديد.
انتخابات غير عادلة
تعد هذه الانتخابات، وهي الأولى التي تجري بعد رفع العقوبات الاقتصادية، استفتاء على مسار البلاد الحالي فيما يتعلق بالانفتاح على الغرب.
وتبدو المنافسة على أشدها بين تيارين الأول يسعى للحفاظ على مراكزه ومكتسباته، على رأسه الحرس الثوري، والثاني يرغب في التحرك داخل دائرة أكثر اتساعا في التعامل مع الغرب الذي مازال متشككا في قدرة إيران على الالتزام باتفاقاتها كما انتقد بشدة سير العملية الانتخابية ووصفها بغير الديمقراطية.
وقد وجّه نواب في البرلمان الأوروبي بيانا شديد اللهجة لإيران، جاء فيه أنه في هذه الانتخابات غير العادلة باعتبار أنه “لا يحق للمعارضة المشاركة فيها، وأن جميع المرشحين يجب عليهم أن يكونوا مؤمنين بمبدأ ولاية الفقيه. كما أن هناك مؤسسة غير منتخبة باسم مجلس صيانة الدستور الذي يتم تعيين أعضائه من قبل آية الله خامنئي، تحدد أهلية معظم المرشحين”.
مع فقدان الأيديولوجية الإسلامية لتأثيرها المغري، فإن السبيل الوحيد لإطالة أمد حياة النظام هو الإصلاح الاقتصادي
وفي تقييم مشابه، قال جون بولتون، سفير الولايات المتحدة السابق لدى الأمم المتحدة والمساعد الأسبق لوزير الخارجية الأميركي في شؤون الأمن الدولي، إن “نظام آيات الله في إيران سينهار إذا أجرى انتخابات حرة”.
وبيّن بولتون في معرض تعليقه على الانتخابات الإيرانية أنه “من السهل التلاعب بهذه الانتخابات وحدوث تزوير فيها في ظل الأنظمة والإجراءات القائمة في إيران، حيث أن المرشحين ليسوا أصحاب خيار، بل يتم انتقاؤهم بدقة خاصة من قبل آيات الله، ويتم ترشيح أفراد يتم تأييد أهليتهم من قبل مجلس صيانة الدستور، وبالتالي من قبل المرشد أيضا”.
وقال “مهما كانت نتيجة الانتخابات، فإن السلطة العليا تبقى بيد المرشد، وباعتقادي أن الشعب الإيراني يعتقد أن الرئيس تم اختياره مسبقا”.
تراجع الشعارات الأيديولوجية
تشير البيانات الأخيرة التي أدلى بها خامنئي والعديد من المرشحين الرئيسيين للرئاسة إلى أنهم يعتبرون الأزمة الاقتصادية نقطة الضعف الرئيسية في عهد الولاية الأولى لحسن روحاني، وهي أزمة قادرة على التسبّب في أزمة أمنية تهدّد البلاد، خاصة وأن نظام الولي الفقيه فشل في الوفاء بوعوده الأيديولوجية على مدى العقود الأربعة الماضية.
ورصد مهدي خلجي، الباحث في معهد واشنطن للدراسات، من خلال المناظرات التلفزيونية والعديد من خطابات الحملة الانتخابية، أنه جرى التركيز على موضوعين هما: الوعد بإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية، واتّهام بعضهم البعض بالفساد الاقتصادي، مقابل غياب شبه كامل للقضايا الإسلامية وأيديولوجية النظام عن الانتخابات، وهما نقطتان محوريتان ونموذجيتان للحملات السياسية الإيرانية.
ومن المثير للاهتمام أنه حتى المرشد الأعلى تجنّب الإشارة إلى القضايا الإسلامية في خطابه الأخير حول الانتخابات، وبدلا من ذلك حثّ على التركيز على دور الاقتصاد في الحفاظ على الأمن القومي.
ويرى خلجي أنه مع فقدان الأيديولوجية الإسلامية لتأثيرها المغري، فإن السبيل الوحيد لإطالة أمد حياة النظام هو الإصلاح الاقتصادي. إلّا أنّ آفاق هذا الإصلاح لا تبدو مشرقة نظرا للسلطة المحدودة جدا التي تُمنح للرئيس، والتدخل المستمر من قبل الكيانات القوية غير الخاضعة للمساءلة في اقتصاد البلاد، والتي يأتي على رأسها الحرس الثوري.
هذه الانتخابات ليست فقط من أجل اختيار الرئيس وإنما تتعلق أيضا بخلافة خامنئي ومستقبل الثورة
وقال علي ألفونه، الباحث لدى مجلس الأطلسي والذي أجرى بحثا موسعا بشأن الحرس الثوري، “هذه الانتخابات ليست فقط من أجل اختيار الرئيس وإنما تتعلق أيضا بالخلافة بعد خامنئي”. وتابع “يعتقد الحرس الثوري أن هذه فرصته للقضاء نهائيا على التكنوقراط والتحكم في عملية الخلافة بعد خامنئي”.
وستقوم هيئة مجلس الخبراء، التي تم انتخابها العام الماضي لفترة 8 سنوات وحقق فيها المعتدلون تقدما طفيفا باختيار المرشد الأعلى.
وحسن روحاني نفسه عضو في هذا المجلس بوصفه أحد أكبر الحاصلين على أصوات وقد اكتسح هو وحلفاؤه تقريبا مقاعد العاصمة طهران.
ولكن أعضاء كثيرين بالمجلس ليسوا مرتبطين بقوة سواء بالمعسكر الإصلاحي أو التقليدي، كما أن الجبهة التي تفوز في انتخابات الرئاسة قد تكسب ميزة بمحاولة تعزيز التأييد لمرشحها لمنصب الزعيم الأعلى.
ويستقوي الحرس الثوري برجال الدين الذين يتمتعون بامتيازات ضخمة، ومن هنا جاء اختيارهم على إبراهيم رئيسي، سادن العتبة الرضوية المقدسة، المؤسسة الخيرية الأكثر ثراء في العالم الإسلامي.
ويتمتع آيات الله بامتيازات كبرى، فمنهم يتم اختيار المرشد الأعلى ووزير الاستخبارات ورئيس السلطة القضائية ومجلس خبراء القيادة، ونصف أعضاء مجلس صيانة الدستور الذي يتمتع بنفوذ كبير.
ويقول مهدي خلجي إن هذه الامتيازات ساهمت في تحوّل المؤسسة الدينية من منظمة تقليدية تعتمد على الموارد الدينية إلى كيان عملاق له نظام بيروقراطي محدّث واستخدام غير محدود للموارد الوطنية والقدرة على منافسة القطاع الخاص على كافة الجبهات.
الحرس الثوري يقود التغيير
كان ظهور الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وهو سياسي من خارج المؤسسة الدينية وصل إلى السلطة بدعم من المرشد الأعلى والحرس الثوري وتفوق على آية الله أكبر هاشمي رفسنجاني في صناديق الاقتراع، شكّل حدثا هاما في مسار تحوّل المشهد الحكومي من حكومة يترأسها رجال الدين إلى نظام يقوده “إسلاميون من خارج المؤسسة الدينية”.
مع تراجع مكانة رجال الدين شيئا فشيئا، فسوف يتعين على النظام مضاعفة الجهود الحالية لاستراتيجيته، والاعتماد على التدابير الأمنية أكثر من السلطات الروحية
وكان الحرس الثوري المحرك الرئيسي لهذا التغيير، ومن الصعب اليوم إيجاد أي منحى من الحياة العامة أو الشخصية، بدءا من الاقتصاد ومرورا بالسياسة الخارجية ووصولا إلى البرنامج النووي، لا يخضع لسيطرة الحرس الثوري.
وعلى الرغم من توسع الشبكة الاجتماعية لرجال الدين واستعانتهم بالمزيد من الموارد الحكومية لتوجيه التفكير العام فقد خسر هؤلاء سلطتهم الاجتماعية، وانعدام أهميتهم في الحملات السياسية مثال من أمثلة كثيرة على هذا التراجع.
وبلغ قلق رجال الدين من تراجع نفوذهم حدّ التشهير به على الملأ، كما يقول مهدي خلجي. ففي عام 2016، قام مكتب التوعية الإسلامية، وهو منظمة دينية ضخمة تابعة للنظام وخاضعة لإشراف خامنئي، بعقد ندوة تحت عنوان “الهيبة السياسية الاجتماعية لرجال الدين في العقد الرابع من الجمهورية الإسلامية”.
تطرق المتحدثون إلى أسباب تراجع مكانتهم السياسية والاجتماعية، وأقرّوا بأن المشكلة وصلت إلى مرحلة حاسمة. وردّاً على الإفراط في تسييس رجال الدين، نشأ جيل جديد من طلاب الحوزات العلمية الذين حاولوا النأي بأنفسهم عن السياسة. غير أن هذه النزعة أثارت قلق خامنئي إلى حدّ هائل، الأمر الذي دفعه إلى إحكام قبضته على إدارة المؤسسة الدينية.
ويخلص مهدي خلجي إلى أنه من المفارقات، أن نظرية “ولاية الفقيه” قد قوّضت مفهوم “الفقه” منذ ثورة عام 1979. فقد رأى رجال الدين الشيعة على اختلاف مستوياتهم قلّة الجدوى من دراسة “الفقه” لكي يصبحوا “فقهاء” عندما يعاملهم المرشد الأعلى كما يُعامِل أي شخص آخر، بإرغامهم على الإطاعة لأحكامه وحده حول جميع المسائل الدينية وغير الدينية. وبالفعل فإن “ولاية الفقيه” تمنح المرشد الأعلى صلاحية فريدة لتخطي الشريعة الإسلامية كلما تعارضت مع مصالح النظام.
ولكن مع تراجع مكانة رجال الدين شيئا فشيئا، فسوف يتعين على النظام مضاعفة الجهود الحالية لاستراتيجيته، والاعتماد على التدابير الأمنية أكثر من السلطات الروحية لضمان بقائه، وهو ما سيقوم به الحرس الثوري.