تثبت هذه «السلطة»، في كل تفصيل أو مفصل، أنها ليست أهلاً لتولي إدارة الدولة، ولا يمكن ائتمانها على أي حق عام أو خاص.
ففي الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، مُرِّر البند 28 الوارد على جدول الأعمال، من دون أي نقاش، وما عدا قلّة من الوزراء، لم تكن الأكثرية (حسب ادعاءات بعض الوزراء) على علم بماهية هذا البند، الذي يرمي إلى «إخضاع قسم من المنطقة الارتفاقية التاسعة لنظام المنطقة الارتفاقية الرابعة في مدينة بيروت»، وهذا يعني إخضاع قسم من الأملاك التابعة لحرج بيروت، المحظور البناء عليها حظراً تاماً، لأملاك يمكن إقامة أبنية ومنشآت إسمنتية عليها بعوامل استثمار مرتفعة! هذا القضم المتمادي لمساحة الحرج يهدف هذه المرّة إلى تمكين «كشافة الرسالة» و«إذاعة الرسالة»، التابعتين لحركة أمل، من تسوية مخالفات البناء المشيّد على العقار رقم 1925، إلا أن خلوّ مشروع المرسوم المقرّ من أي خرائط أوحى أن الهدف الفعلي قد يتجاوز كثيراً هذه المخالفات إلى مخالفات أخرى، قديمة أو تحصل الآن أو ستحصل في المستقبل!
يوضح محمد أيوب، المدير التنفيذي لجمعية «نحن»، وهي الجمعية الأنشط في حملة الدفاع عن حرج بيروت، أن تمرير هذا البند في مجلس الوزراء هدفه تغطية التفاف بلدية بيروت على القانون، وهو يأتي بعد إصدار البلدية قرارين في هذا الشأن: الأول، يقضي بتأجير كشافة الرسالة مساحة 4 آلاف متر مربع من أملاك الحرج لمدة 99 سنة. والثاني: يقضي بطلب تغيير تصنيف هذا العقار، بما يسمح للجهة المستأجرة بتشييد الأبنية.
يزعم المجلس البلدي لمدينة بيروت، في بيان أصدره في شباط الماضي، أن البناء الذي أقامته جمعية كشافة الرسالة على أملاك الحرج يعود إلى عام 1985، أي إلى مرحلة انهيار الدولة كلياً في ذروة الحرب الأهلية. ولكن، بدلاً من إزالة هذا التعدي حفاظاً على المساحة الخضراء الوحيدة في بيروت، عمدت اللجنة القائمة بأعمال مجلس بلدية بيروت في عام 1995 إلى إصدار القرار رقم 101، الذي خصص العقار المذكور للجمعية، وحظي بموافقة المجلس الأعلى للتنظيم المدني في جلسته المنعقدة بتاريخ 9/5/2016، محضر 19، بحسب ما جاء في بيان البلدية.
لا تقتصر عمليات قضم الحرج على المساحة المخصصة لبناء مقر لجمعية كشفية وإذاعة حزبية، بل حصلت على مرّ السنوات عمليات ممنهجة قلصت المساحة الخضراء من مليون و250 ألف متر مربع إلى 300 ألف متر مربع حالياً. فقد فرّطت البلدية بنحو 9 آلاف متر مربع للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وأُنشئت مقابر على أملاك الحرج، ووُضعَت اليد على عقارات مختلفة، وأُجيز لقوى الأمن الداخلي تشييد مبنى هناك، والآن يجري بناء مستشفى، وهناك مشروع وافق عليه مجلس الوزراء يقضي بنقل الملعب البلدي من الطريق الجديدة إلى الحرج... والحبل على الجرار.
معظم الوزراء لم يعرفوا ما الذي وافقوا عليه في البند 28
أمام هذه «المجزرة» المرتكبة بحق آخر متنفس طبيعي ومشجّر في مدينة الباطون، لا يظهر أن الوزراء حرصاء على وقفها، إذ إن معظمهم زعم بعد جلسة مجلس الوزراء الأخيرة أنه لم يكن على علم بماهية البند الذي أقره من دون أي نقاش أو تصويت.
حاولت «الأخبار» استطلاع مواقف هؤلاء الوزراء، إلا أنّ وزراء الزراعة غازي زعيتر، السياحة أواديس كادنيان، والعمل محمد كبارة، أجابوا بأنهم غادروا الجلسة (المنعقدة بتاريخ 17/ 5/ 2017) قبل انتهائها. أمّا وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية، عناية عز الدين، فلم يكن لديها فكرة إذا جرى التصويت على البند رقم 28 من جدول الأعمال أو لم يجرِ، لكونها تركت الجلسة قبل الوصول إلى هذا البند «لفترة نصف ساعة لإجراء اتصالات مهمة»، وعادت إلى الجلسة بعد مروره، بحسب ما صرّحت.
استمرت الاتصالات بالوزراء بحثاً عن وزير «مجتهد» لم يغادر الجلسة قبل انتهائها، أو يعرف ما الذي وافق عليه. عُثر على وزير الدولة لشؤون المرأة، جان أوغاسبيان، الذي «تذكّر» أنّ هذا البند كان على جدول الأعمال، وقال إنه «يتوقّع» أن يكون قد مرر! هو ليس أكيداً 100%، لكنه «وضع إشارة إلى جانب البند 28»، على حدّ تعبيره، ما يعني أنه أقرّ، طالباً التأكد من زملائه للحصول على الخبر اليقين. من جهته، عبّر وزير الشباب والرياضة محمد فنيش، عن «اعتقاده» أنّ البند المذكور «مرّ من دون مناقشة».
كان لا بدّ من استكمال البحث عن وزيرٍ لم تعجز ذاكرته عن استحضار البنود التي جرى تمريرها أو لا، بعد دقائق قليلة من انتهاء الجلسة. وُجِد وزير الصناعة، حسين الحاج حسن، الذي طلب مراراً وتكراراً قراءة البند رقم 28 على مسامعه كي ينعش ذاكرته. تذكر الحاج حسن في النهاية، وأكد أن المرسوم «مشى من دون تصويت»، أي لم يُناقَش. ورداً على سؤال: «هل كان الوزراء على علم بأنّ هذا الجزء الذي غُيِّر نظامه الارتفاقي يقع ضمن نطاق حرج بيروت؟»، أجاب: «مش على حد علمي»، ومع تكرار السؤال: «هل كنت تعلم معاليك بذلك؟»، ردّ: «لا لم أكن أعلم»، مؤكداً أنّ البند عُرض في خلال الجلسة بهذه الطريقة المقتضبة، ولم يُوضَّح للوزراء أنّ هذا البند له علاقة بحرج بيروت.
استنادا إلى ذلك، يمكن القول إن مرسوم قوننة التعديات على حرج بيروت هُرِّب في مجلس الوزراء، بسبب إهمال الوزراء الحاضرين. فصياغة البند (مشروع المروم) جرت بطريقة تمويهية، من دون التوضيح أنّ القسم المقصود يقع ضمن نطاق حرج بيروت، في الجزء الجنوبي منه لجهة الشياح، ويضم بناءً مخالفاً يعود إلى كشاف الرسالة الإسلامية وإذاعة الرسالة، ومن دون لفت انتباه الوزراء إلى الفرق ما بين المنطقتين الرابعة والتاسعة، ومن دون أي أسباب موجبة.
هكذا تجري «شرعنة» كل التعديات الحالية الواقعة في حرج بيروت، تمهيداً لـ«شرعنة» كل مخالفة على الأملاك العامة والمواقع الطبيعية والتراثية. اللافت أنّ الوزراء مرّ هذا المرسوم على مسامعهم وكأنه لم يمرّ، وعن وعي أو عن غير وعي لم يكلّف أحدهم عناء السؤال عن موقع هذا الجزء الذي سيُغيَّر نظامه الارتفاقي في بيروت، إما إهمالاً منهم لشؤون البلد الذي وُزّروا عن قضاياه، وإما جهلاً منهم بالمعنى الحقيقي للفرق بين المناطق الارتفاقية في مدينة بيروت.
يوضح أيوب أنّ ما أُقرّ في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء يعني نقل قسم من الحرج من المنطقة التي يُحظّر القانون البناء عليها بأي شكل من الأشكال، إلى منطقة يُسمح بتنفيذ شتى أنواع البناءات في نطاقها، بما في ذلك ناطحات السحاب. ويرى أنّ تمرير مثل هذا المشروع في مجلس الوزراء يعني قوننة التعديات على حرج بيروت، التي أسهمت في تقليص مساحة غابة الصنوبر وفسحة الخضار في بيروت الكبرى، كذلك فإنّها تفتح الباب أمام المزيد من التعديات التي تسلب المواطنين حقوقهم. ويرى أيوب أن هذا المرسوم هو «بمثابة التفريط بآخر مساحة خضراء في مدينة بيروت، والتفريط بتراث بيروت، لكون الحرج مُصنّفاً بأنه موقع طبيعي وتراثي ومنظر جمالي، وتلويث بيروت أكثر وأكثر وتدمير آخر متنفس طبيعي لها»، محمِّلاً مسؤولية تمرير هذا المرسوم «لوزراء غافلين لا يعرفون على ماذا يصوتون ولا يدققون بالمراسيم التي تمرّ، وكأن الأمور الداخلية اللبنانية لا تعنيهم، لا من قريب ولا من بعيد». وعن الخطوات المقبلة التي ستتخذها «نحن» لمواجهة هذا المرسوم وتوابعه، تمنى أيوب على رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، إلغاء هذا المرسوم، مشيراً إلى أن «نحن» ستلجأ إلى القضاء للطعن فيه وإبطال مفاعيله قبل أن يصبح ذريعة يتذرّع بها سماسرة المساحات العامة في لبنان لقضم ما بقي من حرج بيروت.